الصراع الإسرائيلي الإيراني وتحدّيات الوكلاء
يأتي التصعيد الإسرائيلي - الإيراني في سياق إعادة ضبط استراتيجية الردع ومحاولة فرض معادلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط، فبعد جولات من الصراع تركّز معظمها في حروب الظل، غيّرت الهجمات العسكرية المتبادلة قواعد الاشتباك التقليدية بين الطرفين إلى المواجهة المباشرة، وذلك باستهدافهما العمق الجغرافي، ومع أن إسرائيل لم تتبنَّ الهجوم الأخير على إيران الذي طاول إقليم أصفهان، بالإضافة إلى مواقع في سورية، فيما حرصت إيران على احتواء تبعات الهجوم الإسرائيلي، فإن اللافت في الجولة الأولى من معركة الردع هو جبهة إسناد إيران من الوكلاء وطرقهم في الدفاع عن حليفهم، وانعكاس ذلك على مركزهم المحلي.
التحرّك في محيطها القومي، أياً كان حجم التنافسات السياسية والمذهبية مع خصومها، يعضُد مركز إيران في صراعها مع إسرائيل، ليس عسكرياً، وإنما بوسائل الردع والضغط المتعدّدة التي تمتلكها. وإذا كان الكيان الإسرائيلي يعتمد على القوة العسكرية، إلى جانب تحالف غربي واسع، أصبح قوة إسناد عسكرية وطوقاً للدفاع عن إسرائيل، فإن المجال الحيوي المحلي والإقليمي المعادي لإسرائيل، كونها دولة استيطان، يجعلها تتحرّك في محيط مناوئٍ لها، بحيث تظلّ معزولة في الأراضي المحتلة، وإن استثمرت مخاوف الدول العربية من تنامي النفوذ الإقليمي الإيراني، إلى جانب أن وجودها في بيئة مناوئة لها يجعلها في حاجةٍ إلى إسناد عسكري كبير في أي مواجهةٍ محتملةٍ مع إيران، وهو ما أكّده الهجوم الإيراني على إسرائيل ودخول أميركا وبريطانيا وفرنسا جبهة موحّدة للدفاع عنها، فيما تعتمد إيران على عوامل قوة تُضاف إلى قوتها العسكرية، وذلك بإدارة نطاقات نفوذها خارج أراضيها وتوجيهها عسكرياً في حالات التهديد وذلك من خلال وكلائها، فقد شكّل الهجوم الإيراني أول اختبار واقعي لفعالية الوكلاء، إذ أكد دورهم المركزي قوة ردع إضافية، تدافع عن التهديدات الخارجية التي تتعرض لها. ومع أن سياسة تنمية الوكلاء التي تستخدمها إيران وغيرها من الدول في المنطقة، تظلّ انتهاكا صريحا لسيادة الدول، إضافة إلى جر البلدان التي ينشط فيها وكلاؤها إلى حالة صراع دائمة، إلى جانب مضاعفة معاناة الشعوب في هذه البلدان، فإن إيران، وخلافاً للسعودية والإمارات، اللتين نمّتا وكلاء لتوسيع رقعة نفوذهما الإقليمي، استطاعت إدارة وكلائها بفعالية، حيث نقلت علاقتها بالوكلاء من مستوى الخضوع الكلي لقراراتها إلى التحالف الاستراتيجي الذي يتغيّر بحسب أجنداتها ودرجة التهديدات الإقليمية التي تتعرّض لها، إضافة إلى شمولية التنسيق العملياتي والعسكري في إدارة جبهات الوكلاء، وهو ما أثبته هجومها أخيراً على إسرائيل وانخراط وكلائها في لبنان واليمن في تنفيذ الهجمات، بحيث منحها ذلك تفوّقاً على إسرائيل في اتساع نطاق الهجمات وتعدّد جغرافيّتها، وأيضا الأوراق العسكرية التي يمتلكها وكلاؤها للضغط على إسرائيل وحلفائها الغربيين. وإذا كانت التراتبية في هرمية الوكلاء انعكست على مستوى الدعم العسكري الذي تقدّمه إيران لوكلائها وتوفير الحماية، وتدخّلاتها المباشرة أو غير المباشرة في معادلة الردع ضد خصومها الإقليميين، بحيث أوجد ذلك تمايزاتٍ في العلاقة بينها وبين وكلائها تخضع للترابط العقائدي والسياق التاريخي في تشكيل أذرعها الرئيسية، وأيضا القرب الجغرافي بالنسبة لإيران، وتأثير ذلك على أمنها القومي، فإن انخراط معظم وكلائها في الهجوم على إسرائيل أكد قدرتها على توحيد جبهاتها الخارجية لتنفيذ أهدافها وتجاوز تباينات التفضيل وامتيازات الموقع الجغرافي.
شكّل الهجوم الإيراني على إسرائيل أول اختبار واقعي لفعالية الوكلاء، إذ أكد دورهم المركزي قوة ردع إضافية
في العلاقة الاستراتيجية بين إيران ووكلائها تتباين مستويات هذه العلاقة، وأيضا حجم الدعم والإسناد والتدخلات، وظل ذلك حاضرا في حروب الظل التي دارت مع إسرائيل وصولاً إلى تغيير قواعد الاشتباك في الجولة التي استجدّت أخيراً من الصراع. وفي حين أن علاقتها مع وكلائها استتبعته كلفة عسكرية وسياسية وإنسانية عليهم، فإلى جانب إنهاك وكلائها في حروبها الإقليمية، فإنها ربطت البلدان التي ينشط بها وكلاؤها في المعادلة الإيرانية أمنيا وعسكريا، وجرّها إلى الصراع الإقليمي مع منافسيها وحالياً في صراعها مع إسرائيل، بحيث حوّلت هذه البلدان إلى ساحة لانتقام خصومها. وربما تمثل الساحة السورية مثالاً على ذلك، فإلى جانب كونها مسرحاً دائماً لحروب الظل التي تشنها إسرائيل ضد خصمها الإيراني، بما في ذلك استهداف القوى المتحالفة مع إيران في سورية من قبل أميركا، فإن الساحة السورية تدفع ثمن تبعات التصعيد الإسرائيلي الإيراني حالياً، حيث زامنت إسرائيل هجماتها على العمق الإيراني بشن أهداف طاولت سورية، ومع أن تغيير إيران لقواعد الاشتباك مع إسرائيل خضع لمركزية سورية كمنطقة نفوذ رئيسية. إذ إن هجومها على إسرائيل أتى في سياق الرد على استهداف قنصليتها في دمشق والانتقام لمقتل قادة عسكريين بارزين، وأيضا دفاعا عن مصالحها في سورية، وحماية وكيلها، ممثلا بنظام بشار الأسد، كأحد قوى معسكر المقاومة ضد إسرائيل، فإن الكلفة الباهظة التي تدفعها سورية تجعل من أي تدخل إيراني لنصرة وكيلها عبئا إضافيا. في المقابل، ومع كون اليمن جبهة ثانوية بالنسبة لإيران، أي خارج أولوياتها الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، فإن إثبات جماعة الحوثي فاعليتها كقوى في معسكر المقاومة، واستهدافها السفن التابعة لإسرائيل والقوى الغربية في الممرات المائية اليمنية، الأمر الذي ترتب عليه استهدافها عسكريا من أميركا وإسرائيل، لم يدفع إيران إلى تبنّي موقف حازم للدفاع عن وكيلها، ومن ثم فإن اليمن بالنسبة لإيران تظل ساحة للضغط، وإن جرّت عليها ويلات كثيرة، فيما تبقى الجماعة شريكا في الخسائر.
مثل دخول جماعة الحوثي على خط الصراع الإسرائيلي - الإيراني متغيّراً عسكرياً وسياسياً، إذ حوّل اليمن إلى جبهة إسناد عسكري لإيران
مثل دخول جماعة الحوثي على خط الصراع الإسرائيلي - الإيراني متغيّراً عسكرياً وسياسياً، إذ حوّل اليمن إلى جبهة إسناد عسكري لإيران. ومع أن بُعد اليمن جغرافيا يجعلها جبهة ثانوية في أي حرب شاملة مقبلة مع إسرائيل، مقارنة بالجبهات اللبنانية والسورية والعراقية التي تتماس مع الأراضي المحتلة، والتي تشكّل نقاط ضغط على إسرائيل وعلى حلفائها الغربيين، فإن انخراط جماعة الحوثي في الرد العسكري الإيراني أخيراً على إسرائيل جعلها طرفاً في معادلة أمن إيران في المنطقة، ومن ثم طرفاً في أي حربٍ تستهدفها في الوقت الحالي أو في المستقبل، كما أن التقارب المذهبي إلى حدٍّ ما مع إيران يجعل الجماعة تنضوي في تحالفٍ مع القوى الشيعية التي تتزعّمها إيران، ومن ثم تكتّل عسكري وأمني في أي صراع يستهدف إيران، إضافة إلى العداء مع إسرائيل وأميركا، الذي يشكل قوام السند الأيديولوجي لجماعة الحوثي وإيران، والذي منحته حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة زخماً جديداً. ومن الأيديولوجي والسياسي إلى العسكري، فإنه، وبعيدا عن مقدار الدعم العسكري الذي تقدّمه إيران لوكيلها في اليمن، تحشُد الجماعة مقوماتها العسكرية وموقعها سلطة أمر واقع في اليمن، تشرف على بعض الممرّات المائية اليمنية، لتعضيد مركز حليفها في صراعه مع إسرائيل، سواء في حروب الظل أو في حال استمرار تغيير قواعد الاشتباك بين الطرفين وتنفيذ هجمات متبادلة، فبالإضافة إلى شنّ هجمات بالتنسيق مع إيران ضد إسرائيل، فإن الجماعة سوف تستمر في استهداف السفن التابعة لإسرائيل وحلفائها في الممرّات المائية. التماهي مع استراتيجية أمن الحليف يتخطى مسؤولية الوكيل ومدى إلزاميتها إلى تحميله كلفة كبيرة، وخاصة في حالة جماعة الحوثي، إذ إن انخراطها في الهجوم الإيراني على إسرائيل شكل تحوّلاً في وظيفتها، وانتقالها من وكيلٍ مناصرٍ إلى وكيل فاعل، وذراع وإن كان ثانويا، وتداعيات ذلك على أجنحة الجماعة، وبشكل خاص الجناح المناوئ لإيران، والذي ظلّ يحرص على تأكيد البعد اليمني لمذهب الجماعة وسيطرتها على السلطة، خصوصاً في الوقت الحالي، حيث تواجه الجماعة تحدّيات داخلية عديدة، إلى جانب تأثير انضوائها في معادلة أمن إيران على اليمن، بتحويل الأراضي اليمنية والممرّات المائية إلى أداة لنصرة حليفها، فعلى الرغم من تنفيذ الجماعة في السنوات الأولى من الحرب لهجمات متنوّعة أتت في سياق حرب الظل التي تدور بين إسرائيل وإيران، وكذلك هجماتٍ صاروخية ضد الأراضي السعودية والمنشآت النفطية، فإن هذه الهجمات كانت تكيّف باستهداف السعودية وحلفائها في المنطقة، لخوضها حرباً في اليمن. ومن جهة أخرى، فإن شن الجماعة هجمات ضد السفن الموالية لإسرائيل وحلفائها الغربيين كان تحت مظلة دعم المقاومة في غزّة، والدفاع عن الفلسطينيين، كونها إحدى القوى المناوئة لإسرائيل، ومن ثم لم تنخرط الجماعة في صراع مباشر يدعم حليفها الإقليمي، وهو ما مكنها من المناورة بشأن علاقتها بإيران، ومقدار التوظيف والتبعية في العلاقة بين الطرفين. ومن ثم فإن مشاركتها في الهجوم الإيراني على إسرائيل حسم دورها وكيلاً، إلى جانب تحويلها إلى قوة إسناد عسكرية لحليفها في الصراع الإسرائيلي أو أي حرب مقبلة تستهدف إيران.
ومن جهة ثانية، كشف انخراط الجماعة في تنفيذ الهجوم على إسرائيل، بالطائرات المسيّرة، بمعية إيران ووكلائها في المنطقة، مستوى التنسيق العسكري بين الجماعة وحليفها وجهوزيّتها في تبنّي حرب حليفها، مقابل تجاهل تبعات دفع اليمن إلى مربّع الصراع الإسرائيلي الإيراني، إذ إن انخراطها في الهجوم الإيراني حول الممرّات اليمنية من ورقة عسكرية لدعم فلسطين، والضغط على إسرائيل وشركائها الغربيين إلى ساحة مواجهة لدعم حليفها، ومن ثم تغيير معادلة الصراع في البحر الأحمر، إضافة إلى الوسائل التي ستلجأ إليها إيران في حال توسّع الصراع في المنطقة، من إقناع وكيلها بإغلاق باب المندب إلى الانخراط في مواجهة إقليمية مباشرة مع إسرائيل، مقابل الخطوات التي سيلجأ إليها حلفاء إسرائيل، سواء بفرض عقوباتٍ جديدة على إيران ووكلائها بما في ذلك الجماعة، إضافة إلى الاستمرار في عسكرة المياه اليمنية والمضائق بوصول قوات عسكرية إضافية إلى البحر الأحمر، إذ إن انخراط أميركا وبريطانيا وفرنسا في صد الهجمات الإيرانية كشف الدور الحقيقي للقوات العسكرية التي تنشط في الممرّات والمضائق اليمنية، بحماية حليفها الإسرائيلي، وأنها في حال اندلاع حرب شاملة ستكون قوة ضاربة ضد إيران ووكلائها في المنطقة، ومنها اليمن.