الصدر وحديث المكونات

27 يناير 2022
+ الخط -

العراقيون، ومعهم كل دول الإقليم ودول أخرى كثيرة، يراقبون، بقلقٍ كثير، مجريات الأمور في العراق، خصوصاً بعد تمسّك مقتدى الصدر بثوابته المعلنة ومواقفه تجاه القوى السياسية الخاسرة أو غير الخاسرة في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي؛ ومع كل خطوةٍ تقوم بها هذه القوى للملمة نفسها وتوحيد صفوفها للتفاوض أو للتحدّي تجاه الصدر ورئاسة حكومة تصريف الأعمال، مصطفى الكاظمي، باعتباره مهندس إخراج الانتخابات بالشكل الذي أظهر خسارة التنظيمات والتيارات والمليشيات الموالية لإيران، إلا أن ذلك لم يزد الصدر إلا إصراراً على مواقفه، وتمسّكاً بشعاره "لا شرقية ولا غربية".

ظهرت طبيعة العلاقة بين جماعة الإطار التنسيقي والقوى المنضوية في تحالف الصدر و"العزم" و"تقدم"و"الديمقراطي الكردستاني" واضحة بشكلٍ زاد من ضحالة الأساس الفكري والأيديولوجي لها، عبر تصعيدٍ في لغة التهديدات المتبادلة والمشادّات غير اللائقة وتحويل جلسة البرلمان الأولى التي عقدت بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات إلى مسرحيةٍ فوضوية، كان أساسها تقديم "الإطار التنسيقي" لائحة بأسماء 88 نائباً مع توقيعاتهم (قال عنها الصدريون إنها مزوّرة)، وبتواطؤ من الرئيس الأكبر سناً، محمود المشهداني، لتسجيل "الإطار" باعتباره الكتلة الأكبر، ومما يؤيد هذا الاتهام أن المشهداني هو عضو تحالف العزم المنشقّ عن خميس الخنجر والمنضوي تحت تحالفات الإطار التنسيقي كان موعوداً في حال تمرير هذه العملية برئاسة مجلس النواب.

إصرار مقتدى الصدر على أن تكون الحكومة المقبلة "حكومة أغلبية وطنية" جعله يبتعد عن حديث "المكونات" البغيض وقوة "المذهب" الذي يراهن عليه زوراً بقية القوى المناكفة له

وشاهد العالم على شاشات تلفزيونية وقائع هذه الجلسة مهزلة مملة، ومحبطة للشعب العراقي بكل طوائفه، بدأت بدخول نواب التيار الصدري وهم يرتدون الأكفان، في ترميز إلى أنهم مستعدّون للموت في سبيل منع الالتفاف على نتائج الانتخابات، أو تزوير القوائم الخاصة بالتحالفات داخل مجلس النواب، ثم الهتافات التي صاحبت الجلسة ومشهد ادّعاء المشهداني أنه تعرّض للضرب، على الرغم من أن صور التلفزيون الحية لم تثبت ذلك مطلقاً، ثم اختتم المشهد بانسحاب نواب الإطار التنسيقي من الجلسة، ومعهم نواب الاتحاد الوطني الكردستاني، لإعاقة موضوع اكتمال النصاب القانوني لانتخاب رئيس المجلس ونائبيه، وهو ما لم ينجحوا به، فذهبوا بعدها إلى المحكمة الاتحادية لإبطال مقرّرات الجلسة بشكل كامل.

وعلى الرغم من تدخل إيران بشكل مباشر من خلال زيارة قائد الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، العراق عدة مرات واجتماعه بقادة الإطار التنسيقي وبمقتدى الصدر، إلا أن الأمور لم تتلحلح، ولم يتراجع الصدر عن مواقفه المعلنة، بل ربما زاد إصراراً على المواجهة من خلال وضعه مليشيا سرايا السلام التابعة له في حالة إنذار وترقّب لمساندة القوات الأمنية ودعمها، وأيضاً تعيينه أبو مصطفى الحميداوي قائداً لها وبصلاحيات مطلقة، تحسّباً من الصدر لأية محاولات من نوري المالكي وقيس الخزعلي، وبمساعدة إيران لإثارة مشكلات أمنية داخل العراق، وبخاصة في وسط البلاد وجنوبها، بسبب فشل محاولاتهم لاستغلال القضاء بتمرير محاولات تغيير الواقع السياسي الجديد، خصوصا بعد تهديد قيادات في "الإطار" الأكراد (الديمقراطي الكردستاني) والسنّة (عزم وتقدّم) بتحمّل مسؤولية الواقع السياسي الجديد، بتحالفهم مع الصدر الذي يؤمن أن المليشيات الولائية تنتظر الأوامر لفرض الأمر الواقع بقوة السلاح.

من هنا، وإلى خطورة الأوضاع الحقيقية للمشهد العراقي، الطرف الرئيس المستهدف في الحراك المقبل هو مقتدى الصدر، ومع استهدافه، ستستهدف كل القوى التي نجحت، وبتنسيق مع رئيس الحكومة الحالية، مصطفى الكاظمي، في بلوغ الواقع السياسي الجديد وفرضه، لنقل العراق إلى فوضى مسلّحة عارمة، تبدأ بعزل وسط العراق وجنوبه عن سلطة الدولة. لذا من المناسب اتخاذ خطوات وإجراءت تُحتسب لكل احتمال ممكن، حتى ولو بقدر ضئيل، فنحن اليوم أمام مشهدٍ معقدٍ وخطير، قاعدته رغبة شعبية عارمة في التغيير والإصلاح، وأدواته تياراتٌ راهنت، ولو بأقدارٍ متفاوتة، على إحداث ما يمكن إحداثه نحو الإصلاح الذي طالب به ثوار تشرين، وقدّموا من أجله تضحيات كبيرة.

على الحكومة العراقية المقبلة أن تضع الشخص المناسب في المكان المناسب

إصرار مقتدى الصدر على أن تكون الحكومة المقبلة "حكومة أغلبية وطنية" جعله يبتعد عن حديث "المكونات" البغيض وقوة "المذهب" الذي تراهن عليه زوراً بقية القوى المناكفة له، وهو أمرٌ يجب الوقوف عنده كثيراً، فالصراع الحقيقي الذي يستوجب دعم العراقيين هو هذا تحديداً؛ أي بين الذين يريدون تثبيت موضوع "المكوّنات" أمرا واقعا ودائما، على الرغم من عدم وروده في الدستور العراقي بشكل تام، ومن يريدون أن يجعلوا الديمقراطية الحقيقية في العراق تنطلق من مفهوم "الأغلبية السياسية أو الوطنية". ومن هنا، دخل الصدر في معترك كبير وخطير، يهدّد مصالح قوى، وربما دول بعينها، ينسف من خلاله كل ما قدم له طوال 18 عاماً، وتحدّث فيه جميع من شارك في العملية السياسية عن "المكوّنات".

وحتى يكون للدولة العراقية هيبتها، على الحكومة المقبلة أن تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وأن يرأسها من له القدرة والقوة على فرض القانون ومحاسبة الفاسدين ومحاكمة القتلة والخاطفين، ومنع أي مساسٍ بسيادة العراق وفتح آفاق الاقتصاد العراقي وقواعده الصناعية والزراعية، والأهم إنهاء دور المليشيات المسلحة بشكل كامل، وبضمنها الحشد الشعبي وسرايا السلام، ليكون للعراق جيشٌ واحد يحمي حدوده وقوى أمنية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار في عموم البلاد. ولأن القوى الفاسدة والأخرى الولائية التي مرّرت خدعها على بسطاء الناس باسم "المكوّن"، تعرف السيناريو المقبل لإدارة العراق فإنها ستحارب هذا المتغير بقوة، وهو ما يعني ضرورة الالتفاف الشعبي حول حكومة "الأغلبية الوطنية"، لأنها تمثل مفترق طرق واضحا لمستقبل العراق.

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن