الصحراء المغربية: البحث عن الزمن المفقود
يبدأ وجود الدولة من فكرة؛ قديمة أو جديدة. لا بد من فكرةٍ تسبق تأسيس الدولة. بعدها تتجاوز الوجود الفكري إذا امتلكت الأساس الواقعي لنزولها على الأرض، إذ بمقدور أفراد جماعة ما أن يعلنوا نشأة دولة هم شعبها، وبيوتهم أرضها. بما أنّ الدولة تقوم على أركان أساسية؛ الشعب، الأرض، السلطة، بمقدور أيّ كان إعلان دولة، وسيبدأ الاعتراف بها في تكريس وجودها، بغضّ النظر عن حقيقة أنها دولة حقيقية أو مشتهاة. ألا يشتهي معظمنا أن تكون له أرض، له الحرية المطلقة بين حدودها، بحيث لا تنطبق عليها قوانين المجتمع والدولة؟ لعل قضية الصحراء المغربية تدخل في هذا المجال، حين قرّر مجموعة من الأشخاص الإعلان عن دولة، ومن أجل تحويلها من أُمنية إلى وجود "واقعي"، لابد من حلفاء، وهل من حلفاء أكبر من أعداء الطرَف الآخر، أو بالأحرى "أعدقائه"؟
بهذا يكتسب شبح الدولة بعض الملامح بانتزاع اعتراف هذه الجهة أو تلك، استنادا إلى علاقات الدولة الحليفة الأولى، التي لولاها لما كان للدولة المزعومة وجود خارج أماني مؤسّسيها. لكن في مثال الصّحراء المغربية لا مجال لفكرةِ الدولة التي تدعو إليها جبهة بوليساريو إلا بما سبق، أي الوجود الفكري، الذي حاول الاستناد إلى دعم دول لها مصالح في مضايقة المغرب في سياقٍ أفرزته تموقعات الحرب الباردة، غير أن ما يهدّد عدالة القضية هنا طريقة تعامل الدّولة المغربية مع الموضوع، منذ بداية القصة، الذي تراوح بين الارتجال والاستخفاف إلى العنف .. وكان لهذه الأخطاء أثرها الفادح، بمساهمتها في اكتساب فكرة الدولة شرعيةً ما، لدى جهاتٍ لم تكن تأبه أو تعلم بوجودها. الأخطاء المغربية في قضية الصّحراء عديدة. وفي الآونة الأخيرة، تفاقم الأمر؛ في سياق بحث المغرب بشدّة عن طريقة لإنهاء القضية، ولو على حساب قضايا أخرى.
لا يمكن إنكار أهمية انتزاع الاعتراف من الدولة المحتلة سابقاً للصحراء، بالحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب حلا وحيدا ومنطقيا، وهو الاعتراف الذي تأخر أكثر من أربعين سنة. لكن لا ينبغي أن ينسينا ذلك خطورة السكوت على بقاء الأوضاع كما هي عليه في سبتة ومليلية والجزر المحتلة، فلكل حركة عواقبها في القانون الدولي. ووسط انتشاء بعضهم بالاعتراف الإسباني بموقف المغرب في الصحراء، تجاهلوا تصريح المسؤولين الإسبان داخل المغرب، إن بلادهم لن تتنازل عن إسبانية تلك المناطق المغربية المحتلة. لعلّها ضربة إسبانية مضادّة؛ فالاعتراف الإسباني لم يكن معلناً إلى أن سرّب الجانب المغربي الرسالة، وهي الإعلان الذي أثار انتقادات كثيرة في إسبانيا.
عندنا، لم يكن من أثر كبير لمسألة الإعلان الإسباني من عمق التراب المغربي عن الإصرار على إسبانيةِ سبتة ومليلية والجزر المحتلة. وبدا أن المغرب يريد إغفال كل شيء، من أجل حل قضية الصحراء الشائكة. وقبل ذلك، جرى تمرير التّطبيع مع الكيان الإسرائيلي، مقابل انتزاع اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء.
عملية انتزاع اعتراف دولةٍ بجزء من الأرض، لا سلطة لأحد عليه غيرنا، تبقى مسألة مهمة، خصوصا وأنها الدولة التي كانت تحتل الصّحراء قبل استرجاعها، لكن أهمية ذلك القرار لا ينبغي أن يكون على حساب التّضحية بالجزءِ الذي ما زال خاضعاً لاستعمارها. وبدل هذا اللُّهاث المحموم الذي لا يقلّ ارتجالاً عن باقي الطرق التي سلكها المغرب من قبل لحل قضّية الصحراء، لنتعلّم من إسبانيا نفسها كيف تُدبّر أزماتٌ شبيهة، يقف فيها معظمُ سكان المنطقة (كتالونيا) مطالبين بالاستقلال، عبر استفتاءٍ عبّروا فيه عن اختيار الاستقلال. لكن إسبانيا لم تكتفِ برفض استقلال المنطقة، بل تصدّت بحزم لأي جهةٍ خارجيةٍ حاولت اللعب على الموضوع الذي رفضه الشعب الإسباني الذي تحكمه الديمقراطية، رغم أن خيار انفصال كتالونيا جرى وفق إحدى آليات الديمقراطية نفسها، من خلال التعبير في استفتاء عن الرغبة العارمة للكتالونيين في الاستقلال. وفي ذلك جزء من حكمة الإنسان المعاصر الذي لا ينظر بإيجابية إلى فكرة التشرذم في عالم محفوف بالمخاطر، بل ينزع نحو التكتّل ليضمن مكانا تحت الشمس، مدركا أن الزمن عاملٌ حاسم في السياسة الدولية.