الشعراء الذين يتبعهم الباريدُوليون
كنتُ أظنّ أنّ لا أحد ينظر ناحيتنا، أو ينتبه إلى لعبة التّداعي التي تلعبُها الأشياء أمامنا. إلى أن تعثّرتُ بكلمة "استسقاط" في كتابٍ وجدتُه ركيكاً، رغم سمعته الطيبة. لكن إحضار هذه الكلمة إلى قاموسي يغفر له ذنوبه كلها. الكلمة التي وصف بها الكاتب عمليةَ ربطِ أشياء لا رابط بينها، في ذهن "المُسْتَسْقِط".
بحثتُ عن مصدر الكلمة، معتقدة أن الاستسقاط (Pareidolia) دلالة نباهة، فتبيّن أنها عرَض مرضي إذا تفاقم يُصبح مرضاً في حد ذاته. وقعَت مخيّلتي على الأرض: لقد صِرنا مرضى، يا صاحبتي، وكنّا نظن أننا أثرياء، ثراء التخييل طبعاً لا غير.
وجّه لي قُضاة الخيال الضّربات تلو الأخرى، فرؤيةُ السّحابة كوجه أو حيوان أو شكل هندسي، يُسمّى الاستسقاط البصري. إذن، كان عارض صحّي ما انتابني حين رأيت أن الضّوء فوقي حين استلقيتُ تحت شجرة في الغابة، يتّخذ وهو ينساب في السّماء، بين كثافة الأشجار، شكلَ ملتقى طُرق تتفرّع بلا نهاية، أو جداول تنبع من نهر عظيم، أو شكلَ شخصٍ يركض، بيدينِ عملاقتينِ تساهمان في رفع سرعة الركض، بتحويمهما في الهواء. في هذه الحالة، ما فائدة الخيال والمخيّلة وخبرة العيون بالآفاق والأشكال والألوان؟ هل يجب أن نرى السماء سقفاً أزرقَ والأرض بلاطاً ترابياً، والأشياء مكعّبات في لعبة إلكترونية؟ ماذا نفعل بكل هؤلاء الشعراء والفنانين والكتاب والموسيقيين، من الذين لولا الاستسقاط لما قدّموا لنا قطرة جمال، من هذا البحر الممتدّ عبر الزّمن، وهو أجمل ما قدّمه الإنسان؟ إذن، لنَحلِق مخيلة الشّعراء الباريدوليين، ومن تبعهم بخيال إلى يوم الدين.
يقول أطباء الاستسقاط إنّها حالة شائعة يمكن أن تصيب أي شخص، ويمكن أن تكون مؤقتة أو دائمة.... "يا ربّ حالة دائمة". لكن هناك باريدليون تأخذهم هواجسهم إلى استسقاطات جماعية أبعد، مثل رؤية المكسيكية ماريا روبيو وجه المسيح في قطعة من الخبز عام 1977، الذي أطلق العنان لصنبورٍ يتهاطل منه الذين يرون وجوها في الطعام. فلمّا ظهر فيسبوك انتشرت صور اسم "الله" داخل نصف بطّيخة أو حبّة الطماطم، كأنه سبحانه بحاجة إلى الباريدوليا ليتجلّى لمن لا يؤمن به. وليس غريباً أن يكون صائغ مصطلح الباريدوليا والمعلن عن كونها جرسا، يدقّ ناقوس السلامة العقلية، هو عالم النفس الألماني كلاوس كونراد الذي اعتبره من ضمن الأعراض الأولية لمرض الفُصام. كل الأشياء بالغة الذكاء أو الجنون تأتي من الألمان، نيتشه، فرويد، يونغ، هيغل، ماركس ...
بحثتُ عن أصل الكلمة في اللغة، ووجدت أن الأُسْطُقس هو الأَصل البسيط الذي يتكوّن منه المركَّب. والأسْطُقسات تشير إلى العناصر الأَربعة عند القدماء، وهي الماء والهواء والنار والتراب. ومرضى الاستسقاط، زاد الله في مرضهم، يجمَعون أسطقساتٍ فوق أسطقسات، لجعل هذا العالم محتملاً بأسطَقة كل ما هو ضئيل الجمال والمعنى والبهجة. بغضّ النظر عن متزمتي التفكير، الذين تصبح في نظرهم الحُدوس نفسها مرض، وما نعتبره "نحن المستسقطون" رسائل تربط ما يشغل ذهننا بما يحدُث حولنا هي أعراض مرضية مثل السعال والحمّى. وكذلك اعتبار أحدنا أن سماع اسم حبيب يفكّر في نبذه هو والحب وسنينه، إشارة إلى التمسّك به. أما من يظن أن اتصال قريب بمجرّد ذكره أو التفكير فيه نداء باطني فهو ميؤوس منه.
حسب هذا المنطق، الانحياز التأكيدي الذي يقع فيه العلماء أيضاً أوهام لا غير، فنظرية يونغ للتزامنية، في مدرسة علم النفس التحليلي الكلاسيكية، تعد مثالاً واضحاً للباريدوليا، فهو يفسّر المصادفات أنها محمّلة بالمعاني التي علينا اتّباعها. وتحميل فرويد زلّات اللسان معاني لاواعية عديدة. كما أن اختبارات علم النفس التحليلي المبنيّة على تحليل النصوص والرسوم ورؤية المعاني خلفها استسقاطٌ ما بعده استسقاط. فما بالك بالشّعراء الذين أوجدوا صورا شعرية لا تنطبق على معايير الواقع والمنطق، والروائيين الذين اخترعوا مدناً وعوالم وأبعاداً لا حد لها، مثل "العمى"، "مائة عام من العزلة"، "1984"... وقبلها ألف ليلة وليلة. والفنانين الذين تخيّلوا الإنسان مربعاً ومثلثاً وزاويةً حادّة وغير حادّة، والوقت الذي يسيل من ساعة، والرأس الذي تخرج منه الأفاعي ... ماذا نفعل بهؤلاء الباريدوليين، هل نُدخلهم للاستشفاء من الاستسقاط أو نستسقط معهم؟