الشرق الأوسط الجديد في السياسات الأميركية
كانت استراتيجية واشنطن في المنطقة، منذ عهد إدارة الرئيس الأسبق أوباما، تقوم على تخفيض الحضور الأميركي في الشرق الوسط، والتركيز على تحشيد أساطيلها في الباسيفيك مقابل سواحل الصين؛ وأن توكل إلى حليفتها إسرائيل مهمّة قيادة المنطقة عبر تفوقها العسكري، ضمن ما عُرف بناتو عربي - إسرائيلي، يقام تحت حجّة مواجهة إيران وأذرعها الطائفية في المنطقة. اعتقدت إدارة بايدن، عشيّة 7 أكتوبر (2023)، أن الطريق معبّدة لإنجاز صفقة التطبيع بين الرياض وتل أبيب لتتويج مسار الاتفاقات الإبراهيمية التي بدأها سلفه ترامب، لكن حدث طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي العنيف عليه في غزّة وتداعياته كشفت عن هشاشة أميركية، اقتضت من الدولة العميقة في واشنطن مراجعة سياساتها في الشرق الأوسط، فيما سُميت نقطة تحوّل في السياسات الأميركية. فقد جاءت اضطرابات الشرق الأوسط في أجواء دولية متوترة في أوكرانيا، وانشغال أميركي بمعاقبة روسيا ولجم صعود الصين، وفي عام انتخابي، تعثَّر فيه بايدن وسحب ترشيحه، فيما جرى تقديم نائبته كامالا هاريس على عجل مرشّحة عن الحزب الديمقراطي الذي حصلت فيه انقسامات واضطرابات غير مسبوقة على خلفية الموقف من الاحتجاجات في الحرم الجامعي المؤيدة غزّة، ولم تستطع إدارة بايدن إقناع إسرائيل بتخفيف كلفة قتل المدنيين في غزّة، ولا إنجاز هدنة أو مبادلة الرهائن، وهناك انقلاب في الموقف العالمي الرسمي باتجاه إدانة إسرائيل، ومحاكم دولية ضد الدولة المارقة وحكّامها، وهذا يحرج موقف واشنطن الداعم إسرائيل، ويُضاف إلى ما سبق فتح إسرائيل جبهة لبنان، وحرب الصواريخ بين طهران وتل أبيب، ما يقلق واشنطن من اتّساع رقعة الحرب، والتي تشكل وصمة عار في سجل بايدن، سيورثها لترامب أو هاريس، إلا إذا استطاع كبح شهية إسرائيل المفتوحة أبعدَ من بتر أذرع طهران في المنطقة باتجاه ضرب المشروع النووي وتغيير النظام. كما أن عملية 7 أكتوبر وصواريخ حزب الله، والانتقام الإيراني الرمزي لمقتل قادة الحرس الثوري وحزب الله، ذلك كله يظهر نقاط ضعف في منظومة الردع الإسرائيلية - الأميركية، يضاف إلى ذلك قتل ثلاثة من طواقم الخدمة الأميركية في يناير/ كانون الثاني الماضي في هجوم على قاعدة في الركبان في الأردن. وهذا يدفع واشنطن باتجاه تعزيز قواعدها العسكرية في المنطقة، واستقدام منظومة ردع جديدة لحماية إسرائيل، ودعمها في استرداد هيبتها، التي هي هيبة واشنطن، بالتوازي مع مساعٍ لخفض التصعيد.
تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بالسلاح النوعي في حربها ضدّ حركة حماس وحزب الله، ويبدو الأمر كأنها هي التي تقود هذه الحرب؛ بالتأكيد هي تريد القضاء على الجناح العسكري لـ"حماس"، وراضية عن انتقام إسرائيل من حزب الله، لكنها تخشى خطوات إسرائيل غير المحسوبة، والتي لا تراعي المصالح الأميركية، خاصة ما يتعلق بالرد على الهجوم الصاروخي الباليستي الإيراني الحاصل مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وما سيترتّب عليه من تداعيات خطيرة. ليست واشنطن حالياً في وارد معالجتها. ليس المشروع النووي الإيراني من ضمن قائمة أهداف إدارة بايدن، لصعوبته؛ إذ يحتاج الأمر إلى قنبلة GBU 57 الأميركية ذات الـ12 طناً، وإلى طائرة الشبح B-2 لحملها، وهي السلاح التقليدي الوحيد القادر على اختراق التحصينات، حيث يتم تخصيب اليورانيوم بدرجة 60% في نطنز وفوردو تحت عشرات الأمتار من الصخور والبيتون. لكن بإمكان إسرائيل استهداف منشآت إنتاج أجهزة الطرد المركزي التي تستخدم في عملية التخصيب، إلا أن ذلك لن يوقف المشروع النووي الإيراني.
أما استهداف المنشآت النفطية الإيرانية (مثل جزيرة خَرَج التي يخرج منها 90% من النفط الإيراني معظمه إلى الصين) فهو ضربة قاتلة لاقتصاد طهران الهشّ، الذي يعتمد كلياً على تصدير النفط، بسبب العقوبات على الاستثمارات الخارجية. وهنا تراهن إسرائيل على احتجاجات شعبية تزعزع النظام في طهران، لكن واشنطن لا تدعم إسرائيل في هذا الخيار، بسبب تبعاته على أسعار النفط العالمية (إيران ثالث أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك)، ومن الممكن أن تستهدف طهران حينها، عبر وكلائها في اليمن والعراق، منشآت نفطية في منطقة الخليج العربي، وهذا سيؤدّي إلى قفزات في أسعار النفط، وإرباك للمرشّحة الديمقراطية قبل شهر من الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. أجمعت دول الخليج على الوقوف على الحياد، وإغلاق مجالها الجوي أمام الصواريخ الإسرائيلية، خاصة بعد تحذير إيران لها.
ليست تبعات استهداف النظام في طهران بالأمر السهل، لأنه سيعني تغييرات كبيرة في نفوذ القوى العظمى في المنطقة
الأزمة الاقتصادية الخانقة في إيران هي ما دفعت المرشد الأعلى، علي خامنئي، إلى التهدئة واتباع سياسة عقلانية مع واشنطن، تتمثل في الأداء الدبلوماسي للرئيس الجديد مسعود بزشكيان. هو يريد العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن بلاده التي تعتاش على بيع النفط بأسعار بخسة إلى الصين. لكن إيران استغلت الحرب الجارية في غزّة بدفع حزب الله إلى تصعيد مضبوط ضد إسرائيل منذ طوفان الأقصى، وهجمات من الحوثيين، كأوراق تفاوض مع الأميركيين، لكن استهداف قيادات الحرس الثوري وحزب الله على مدى عام، ثم الضربة القاسية للحزب في لبنان آخر الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، واغتيال أمينه العام حسن نصر الله وربما خلفه هاشم صفي الدين، أفقدت طهران تلك الورقة، ودفعت بها إلى ردّ رمزيٍّ يظهر قدرتها على الوصول إلى العمق الإسرائيلي، يضاف إليه ردّ موجعٌ من حزب الله باستهداف مسيّرة لقاعدة غولاني، ضمن معركة إيرانية لتخفيف حجم التنازلات المطلوب تقديمها إلى واشنطن.
ليست تبعات استهداف النظام في طهران بالأمر السهل، لأنه سيعني تغييرات كبيرة في نفوذ القوى العظمى في المنطقة، فروسيا تريد حماية قواعدها في سورية، والصين مهتمة برعاية مصالحها الاقتصادية في الخليج، وقد تحقّق ذلك كله بسبب التراجع الأميركي في الشرق الأوسط، ولن تظلا متفرّجتين على تصعيد أكبر في الشرق الأوسط لمصلحة أميركا. حسابات واشنطن حذرة في الشرق الأوسط، ومشروعها بإنتاج شرق أوسط جديد تقوده إسرائيل ما زال مكبّلاً بعوائق كثيرة. ورغم أن الحرب قابلة للتوسع أكثر والانفلات في ظل حكومة إسرائيلية يمينيّة لا تملك حساباتٍ عاقلة، إلا أن من الصعب على واشنطن توجيه هذا الانفلات لمصلحتها، لذلك تسعى إدارة بايدن إلى لجمه.