الشاعر دوفيلبان وآخرون

12 يناير 2015

دوفيلبان يكتب معزيّاً بمحمود درويش في الرئاسة الفلسطينية (أغسطس/2008/Getty)

+ الخط -

لمّا شاهدنا دومينيك دو فيلبان في جنازة محمود درويش في رام الله، بدا حضوره هناك مضيئاً. وقد دلّ حرصه على مشاركته الفلسطينيين في وداع شاعرهم الكبير على سمتٍ عميقِ الرهافة في شخصه. وكانت تحيته إلى درويش في مقالةٍ نشرها، في حينه، مُحبّةً وصادقة، وقد التقط فيها نجاحَ شاعرنا الراحل في رفضه الانطواء على الألم. .. نتحدّث عن شخصٍ تولى رئاسة حكومة فرنسا ووزارتي الداخلية والخارجية، اشتهر بيننا، نحن العرب، بموقفه الأخلاقي في رفض غزو العراق. وقد بدا خطابٌ له في مجلس الأمن، وكان وزيراً للخارجية، إبّان استعداد الولايات المتحدة لذلك الغزو، ذكياً في التعبير عن نزوعه هذا، وفي تظهير صورةٍ لبلاده صاحبةَ قيمٍ أخرى، غير التي تذهب بها أميركا إلى العراق. وفي أثناء الحرب العدوانية الإسرائيلية، الصيف الماضي، على الفلسطينيين في قطاع غزة، كتب دوفيلبان، في "لوفيغارو"، أن من واجب فرنسا أن ترفع صوتها عالياً في وجه مجازر إسرائيل، واستهجن دعوة حكومة بلاده إلى "ضبط النفس"، فيما "يُقتل الأطفال عمداً". 
قرأنا للسياسي الفرنسي الرزين قصائد نقلها إلى العربية محمد بنيس، ومحاضرة له عن الشعر، ألقاها في المغرب (نشرتا في كتابٍ صدر في 2003)، وقصائد أخرى ترجمها أدونيس. وفي هذه النصوص، وغيرها، كانت تكتمل معرفتنا بمثقف أوروبي محترم، يرى الشعر ضرورة، ويساعد الإنسان المعاصر على مواجهة تحدياتٍ عدة، أبرزها تحدّي الحياة نفسها. وشخصٌ بهذا المقدار من النزوع الإنساني العميق لديه، وبالانشغال بالشعر الذي يعرّفه إلهاماً وحيويةً، لا يمكن إلا أن يكون حاذقاً في رؤيته حادثة "شارلي إيبدو" الإرهابية، أو، على الأصح، في رؤيته حواشيها، وتفاصيل حواليها. جاء صوته، في هذه الأثناء، مختلفاً، فقد أكّد على القيم الديمقراطية للدولة الفرنسية، وتعزيز كل الوسائل والسبل لبناء إسلام فرنسي معتدل، بعيدٍ عن التطرف. وفاجأ مواطنيه في جهره بأن تنظيم الدولة الإسلامية طفل متوحش ولد نتيجة سياسةٍ غربيةٍ متغطرسة، وقال إن التدخل العسكري الغربي، والفرنسي، في العراق ومالي وليبيا ساهم في زيادة أعداد "الجهاديين".
صوت الشاعر دومينيك دو فيلبان مختلف، في غضون الغضب الفرنسي، المسوّغ والمفهوم، من مقتلة "شارلي إيبدو". صوتٌ يؤشر إلى ما قد لا يريد أن يراه غيره، من نخب فرنسية، أخذتها مواقعها في اليمين، بمواقفها المتحفظة أو المتشددة تجاه المهاجرين والمسلمين الفرنسيين وفي فرنسا، إلى مناوأة الإسلام ديناً، والمسلمين بشراً، وذلك في بلد يمثل هؤلاء 20% من مواطنيه. وفي هذا السياق، يحسن الثناء على ما قاله الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، عن وجوب التفرقة بين المتعصبين القاتلين والإسلام، حفاظاً على قيم الدولة الفرنسية، وقوله إن لا علاقة للإسلام بمهاجمي "شارلي إيبدو". ويحسن عدم الشطط في تأويل قول زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية (يمين متطرف)، مارين لوبين، عن "إسلام راديكالي" ارتكبت باسمه جريمة الأربعاء الماضي، وعن "أيدولوجيا قاتلة" لدى معتنقيه.
حين يشارك إرهابيان عتيدان، هما بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، في مسيرة باريس العالمية ضد الإرهاب، وحين تستثمر إسرائيل الجريمة الجديدة في العاصمة الفرنسية، للتنبيه إلى "إرهاب أصولي"، فإن صوت الشاعر دومينيك دو فيلبان يصير الأدعى إلى الانتباه، وإلى التأسيس عليه. وليس ثمة أكثر صواباً من القول إن العصابة الحاكمة في تل أبيب هي الطرف الأكثر استفادة من جرائم خفافيش القاعدة وأشباحها في باريس وغيرها، وكذا جرائم جبهة النصرة في طرابلس، مثلا، إذ سيقتصر مفهوم الإرهاب على هذا الصنف من الجرائم، تنشد إليها الأنظار والعقول، وتنصرف عن غزة وكل فلسطين. وفي الأثناء، ليس من سفالةٍ تزيد أعداد الداعشيين أكثر من تضامن صحافات غربية مع "شارلي إيبدو" بإعادة نشر رسوم ساخرة من النبي محمد، عليه الصلاة والسلام.  

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.