الشاب الذي هزم فرنسا... وطرد الفرنكفونية
ظلّ طيف واسع من الأدباء والمثقفين العرب يتغنّى طوال حياته بانتمائه للثقافة الفرنكفونية. أعرف روائيًا مصريًا لم يكمل تعليمه الثانوي بقي يردّد حتى مماته أنه ابن الثقافة الفرنكفونية البار، رغم أنه لا يستطيع أن يتحدّث جملتين باللغة الفرنسية.
أستحضر ذلك، إذ أراقب ذلك الغضب المتفجر من شعوب القارّة الأفريقية الناطقة بالفرنسية ضد الوجود الفرنسي، عسكريًا ودبلوماسيًا وثقافيًا، في بلادها، إلى الحدّ الذي تهتف معه الجماهير لجنرالات عسكريين انقلابيين أحرقوا تجارب حكم ديمقراطي وليدة في بضع دول، فضلًا عن أنهم أنفسهم صنائع العقلية الاستعمارية الفرنسية، ورجالها الأوفياء الذين قرّروا انتزاع السلطة من رؤسائهم.
الشاهد أن إغواء النفوذ الثقافي الفرنكفوني ظلّ يستقطب أجيالًا من النخب العربية، إذ عرفت باريس كيف تغازل الكاتب العربي، تارة بالترجمة، وأخرى بالجوائز وعزائم المهرجانات والمؤتمرات، ناهيك عن تمويل إنتاج أعمال إبداعية ترسّخ أوهام العلو الفرنكفوني، حتى باتت للمراكز الثقافية الفرنسية سلطة روحية على المبدع الباحث عن الانتشار عالميًا.
نادرة كانت الأصوات الإبداعية التي استعصت على سطوة الإغراء الفرنكفوني، ولم تنسلخ من ثقافتها العربية، أو بالحد الأدنى تضعها تابعة للفرنكفونية ومتأثرة بها طوال الوقت. ما عدا ذلك، كانت هناك ما يمكن تسميتها، من دون مبالغة، مافيا النشر والترجمة والجوائز، التي تتحكّم في قواعد الاختيار وعبور المتوسط.
انكسر ذلك كله وتبدّد على مدار الأعوام العشرة الماضية، ارتباطًا بنهاية جيل من الحكّام العرب كانوا من أصدقاء فرنسا وتابعيها، حتى بعد جلائها عن الدول التي كانت تستعمرها، تاركةً وراءها بذور استعمار ثقافي، عوضًا عن الاحتلال العسكري، فتعالت الأصوات تندّد بالبقاء في أسر الفرنكفونية، فيما شهد الإقبال على تعلم اللغة الفرنسية تراجعًا كبيرًا، حتى في الدول التي كانت ناطقة بها.
تبدّى هذا التململ من سطوة الفرنكفونية في أجواء انعقاد القمة الفرنكوفونية في تونس في نوفمبر/ تشرين الثاني العام 2022، حيث اشتعل الجدل حول جدوى استضافة تلك القمة في وقت أخذت فيه دول فرنكوفونية الانصراف عن استعمال الفرنسية، والانتقال إلى تداول الإنكليزية في المؤسّسات التعليمية، ناهيك عن اتساع رقعة التمرّد على الفرنكفونية بوصفها امتدادًا لاستعمار حضاري لدولٍ عديدة في أفريقيا.
على فرنسا الماكرونية أن تواجه نفسها بالحقيقة، وتتعرّف على الأسباب الموضوعية والمنطقية التي دفعت دول حديقة الفرنكفونية إلى تفضيل الاستبداد العسكري على الديمقراطية المدعومة فرنسيًا، ذلك أن المؤكّد أن لدى شعوب عديدة في أفريقيا وغيرها جوعا حقيقيا لديمقراطية تضمن للناس الحياة وفق قيم إنسانية محترمة، مستلهمة من شعارات الثورة الفرنسية.
الشاهد أن فرنسا مع ماكرون اغتربت كثيرًا عن تلك القيم والمبادئ الإنسانية الموروثة عن مفكّري الثورة الفرنسية، ليكون هذا الشاب الذي خطف الأنظار حين جرى انتخابه رئيسًا للجمهورية الفرنسية لولايتين متعاقبتين، بمثابة مسمار في نعش الفرنكفونية، بمواقفه وتصريحاته التي تنضح عنصرية واستعلاء سخيفًا على هويات وثقافات وقيم الشعوب الأخرى، التي تعيش في فرنسا.
والحال كذلك، سوف يكتب التاريخ عن رئيسٍ شاب جرى انتخابه لتجديد شباب فرنسا وإنعاش الفرنكفونية، لكنه مع الوقت صار العبء الأكبر على هذه الثقافة، والسبب المباشر لتنامي كراهيتها ورفضها في بلادٍ كثيرة ظلت عقودًا مبهورة بها وواقعة تحت سحرها.