السلطة في عشّ الدبابير
من الواضح أن السلطة الفلسطينية لم تخضع لدوراتٍ في تجنّب الوقوع في "عش الدبابير"، وإلا لما كانت جازفت باقتحام مدينة نابلس على نحوٍ لا يفعله حتى المبتدئون في فنون القمع. ولكن يبدو أن أستاذتها إسرائيل لم تعلمها، أو على الأغلب تعمّدت الأخيرة ذلك؛ لإيقاعها في الفخّ نفسه الذي كانت تقع فيه، وفرّت منه فرار المجذوم من وجه الأسد. غير أن الغموض الذي اكتنف ملابسات اعتقال الناشط الفلسطيني المطارد من قوات الاحتلال مصعب اشتية، في نابلس، لا يتعلق بالاعتقال نفسه، بل بردّ فعل الأهالي هناك، الذين انتفضوا في ما يشبه الثورة العارمة ضد عملية الاعتقال، وبلغ بهم الأمر حدّ إغلاق الطرق، ورجم مركبات الأمن الوقائي الفلسطيني بالحجارة والزجاجات الحارقة، في مشاهد ذكّرت بحقبة لم تغبُرْ بعد، أيام كانت الانتفاضات نفسها تندلع ضدّ المحتل الصهيوني، فهل أصبح "الشيءُ بالشيءِ يُذكر"؟
إذا كانت الإجابة "نعم"، فذلك من حسن حظ السلطة الفلسطينية؛ لأن صيغة التشبيه ستكون مخفّفة بعض الشيء، فأن تذكّر أفعال السلطة الفلسطينية بأفعال إسرائيل، فذلك أمرٌ لم يعد مدهشًا، بل يدخل في باب "العادي" و"المألوف"، غير أن بعض الضالعين في أمر العلاقة المرّة بين الفلسطيني والمحتلّ والسلطة يرون أن التشبيه لم يعد معبّرًا عن الحالة الثلاثية القائمة، بل ربما كان "التطابق" بين المحتلّ والسلطة التعبير الأدقّ، حيث زالت الفروق تمامًا بين الأستاذ والتلميذ في أساليب قمع الضحية نفسها.
هل كان أهالي "جبل النار" يدركون أنهم يثورون ضدّ بني جلدتهم، وأن داخل المصفّحات التي كانت تطلق وابل الرصاص ثمّة فلسطينيين، بصرف النظر عن مواصفاتهم الجديدة، المدموغة بختم السلطة؟ ولئن أدركوا، فهل كانت ستختلف ردود أفعالهم عما ظهرت عليه؟
الواقع أنهم كانوا يدركون، ومن الواضح أن تلك الردود لم تكن مباغتةً إلا للسلطة نفسها، التي راهنت على نجاحها بتدجين الشعب الفلسطيني منذ هبوطها عليه بالمظلات قبل أزيد من ربع قرن، فأهالي نابلس، كغيرهم، يحملون في أعماقهم قدرًا كبيرًا من الاحتقان على ممارسات السلطة التي وضعت نفسها رهن إشارة المحتلّ، ومقاولًا ظاهرًا وباطنًا لكلّ ما يتعلّق بمهامه في الداخل الفلسطيني، ومنها مطاردة الناشطين، وقتل من يتضامن معهم إن لزم الأمر، كما حدث في نابلس التي دفعت أحد شبانها ثمنًا لاحتجاجاتها ضد اعتقال مصعب اشتية.
لئن كانت "السلطة تذكّر بإسرائيل"، ولئن كانت السلطة لا يعنيها "على من تطلق الرصاص"، فإن الفلسطينيين، أيضًا، لم يعد يعنيهم "على من يطلقون حجارتهم وقنابلهم الحارقة"، وقبل ذلك غضبهم نفسه، وكان ذلك واضحًا للغاية في شوارع نابلس؛ حيث لم يعد طلب الحرية مقصورًا على انتزاعها من براثن الاحتلال فقط، بل من السلطة التي جاءت لتخدع الشعب بثوب التحرير والاستقلال، فجاءت النتائج احتلالًا مركّبًا اختلطت فيه الوجوه والملامح والبنادق والسياط، فلم يعد الفلسطيني يعرف بأيّ رصاصةٍ يقتل، وبأيّ سوطٍ يضرب، ولا غرابة إن شيّع قتلاه شهداء في الحالتين، بعد أن بلغ به الأمر حدّ أنه لم يعد يعرف من يحتلّ أرضه بالضبط: إسرائيل أم السلطة.
ما حدث في نابلس مؤشّر خطير لما هو قادم، وعلى الأغلب لن تعتبر السلطة الفلسطينية من هذا الدرس؛ لأن الدرس الأهم فاتها وما زال يفوتها، وأعني به "لا تقترب من عشّ الدبابير". ذلك هو الدرس الثمين الذي لم تشأ أن تعلمه إسرائيل لربيبتها؛ ربما خشية ألا تجد من يكفيها عناء السيطرة على مقاومة الشعب المحتلّ، بعد أن أعلنت عجزَها أمامه، وها هو الدور يصل إلى السلطة التي ستعرف يومًا بعد أن يمتلئ جلدها باللسعات أي عشٍّ جازفت بدخوله.. والأهم من هذا وذاك، وما دام "الشيء بالشيء يُذكر"، لن يضير الفلسطينيين بعد اليوم أن يتعاملوا مع "شيْ".