السقوط علامة الرضا
سقط نائبٌ في مصر يفترض أنه معارض لنظام عبد الفتاح السيسي، أو تم إسقاطه عمدًا، فانهالت عليه التهاني بالنجاة من المستنقع، والفوز بغنيمة الابتعاد عن مجلسٍ نيابي فاسد، تكون عبر انتخابات فاسدة. هذا يعني مباشرة أنه لا أحد يرى في انتخاباتٍ تجري بمعرفة هذه السلطة أي جدارة سياسية أو قانونية، أو أخلاقية، لكن المفارقة الشديدة أن يتحدّث بعضهم عما جرى بوصفه معركة انتخابية، أو سياسية، وكأنه كان من الممكن لأحد أن يطأ عتبة البرلمان، من دون رضا النظام الحاكم وموافقته.
النائب الشاب أحمد طنطاوي، الذي تم إعلان سقوطه فيما تسمّى الانتخابات النيابية، في محافظة كفر الشيخ، تحدّث أن إسقاطه يصيب ما وصفه بالمسار الديمقراطي في الصميم، ويفقد الجماهير الثقة فيما تسمى العملية السياسية. أصدقاء النائب وأنصاره اعتبروا أن إسقاطه يدشّنه زعامة سياسية بديلة في المستقبل، ويجعل منه أملًا للتغيير، وهذا كلام أو رأي لا يستطيع أن ينازع أحد أصحابه فيه، أو يفرض عليهم رأيًا آخر في نائبهم، لكن الخلاف، كل الخلاف، حول التعاطي مع أوهام المسار الديمقراطي والعملية السياسية، وكأنها حقائق مجسّدة في بلدٍ محكومٍ بنظام يكره الممارسة السياسية، ويعتبر الكلام في الديمقراطية نوعًا من الزندقة الوطنية، والمؤامرات التي تستهدف إعادة البلاد إلى مرحلة ما بعد ثورة يناير 2011، والتي هي، برأي النظام، مؤامرة نفذها مجموعة من العملاء والخونة.
لسنا هنا بصدد تقييم شخصي للنائب طنطاوي، أو التشكيك في قدراته البرلمانية والسياسية، أو التقليل من شعبيته، والحط من قناعات الكتلة الجماهيرية المتحمسة له. فقط، نسأل من أين هذه الثقة في أن هناك مسارًا ديمقراطيًا أو حياةً سياسية، ومن ثم معارك انتخابية حقيقية، في بلدٍ مثل مصر، يحتل مقعدَ الحكم فيه شخص وصل مشيًا فوق جثة السياسة، وعلى أنقاض عملية ديمقراطية تم هدمها وإشعال النار في أدواتها، ودفنها إلى الأبد؟. وأية معارضة حقيقية يمكن الحديث عنها في ظل نظام يلتهم بشراسة وغلظة كل من يفكّر في منافسته سياسيًا أو مقارعته انتخابيًا؟
عبد الفتاح السيسي شخصيًا يقطع، بيقين صارم، أنه ليس سياسيًا، كما لوّح بها في وجه من يفكّرون في إحداث ثغرة في جدار الخوف، وصولًا إلى إمكانية صناعة تغيير عن طريق الجماهير، والذي هو بعين السيسي فوضى لن يسمح بها، أو كما قال بالنص أمام الجميع قبل أكثر من عامين "محدّش يفكر يا جماعة يدخل معانا في الموضوع ده، لأن أنا مش سياسي، أنا مش سياسي، بتاع الكلام". الألف: هذا نظام وصل إلى السلطة عن طريق إشعال النار في مبدأ الانتخاب وصناديق الانتخاب، ومن يتصوّر أنه قادر على إزاحته بمعركة صناديق كمن يحرُث في البحر، وينصب خيمة في كبد السماء. هو نفسه الشخص الذي يسجن رئيس مجلس نواب (الدكتور سعد الكتاتني) في زنازينه منذ انقلابه على المسار السياسي في 2013 ، وقتل رئيس الجمهورية المنتخب بالحرمان من العلاج في السجن، ويحتفظ في سجونه بعدد هائل من قيادات الأحزاب والسياسيين والحقوقيين .. فكيف يكون مهتمًا بوجود حياة سياسية أو مسارات ديمقراطية، من تلك التي يتحدث عنها بعضهم؟.
قبل الذهاب إلى ما تسمّى انتخاباتٍ، نزلت الشهادات تترى من رجال النظام المشلوحين والمغضوب عليهم، يؤكّدون أن مقاعد البرلمان لمن يدفع الأموال للنافذين في نظامٍ يمارس شيئًا أقرب إلى "الجباية السياسية". هكذا تحدث مرتضى منصور، ثم المحامي طارق جميل سعيد، فتم خلع إسقاط الأول ثم خلعه من رئاسة نادي الزمالك.. وحبس الثاني بعد ظهوره في بث مباشر يعرّي فيه بورصة الانتخابات، قبل أن يُفرج عنه بعد توسلات والده المحامي الشهير. في هذا المناخ، كيف يمكن الحديث عن سياسة وديمقراطية ومعارك نظيفة؟ من أسفٍ أن المشاركة في هذه العملية ليست سوى تطوّع بالمساهمة في إضفاء جدّية على مشهدٍ ينتمي بالكلية إلى أزهى عصور العبث، وابتذال لتعريف كلمة "معركة"، بلصقها على مسرحيةٍ متقنةٍ السيناريو ومحكمة توزيع الأدوار، ذلك أن القائمين عليها لا يعترفون بالسياسة من الأساس، ولا يرون فيمن عداهم إلا أنتيكات تزيّن صالوناتهم، أمام قادة بلادٍ تعرف الديمقراطية، لكنها تحبّ تجارة السلاح أكثر.