السؤال مجدّداً: لماذا نكتُب؟

10 اغسطس 2023

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

لماذا اخترعنا فكرة الكتابة؟ وما الذي أضافته لنا تلك الفكرة إلى الدرجة التي أصبحنا أسرى لها وهي تفضي بنا إلى مساحات شاسعة من الحرّية في كل شيءٍ تقريباً؟ ما الذي جعلها تستمرّ لتنتصر ذلك الانتصار المتصاعد فينا، حتى في حالات الفشل التي نواجهها في حياتنا؟ لماذا نستعين بها لتخليد الفشل والنجاح معاً؟

متأكّدةٌ أننا ننتصر بمحض الكتابة على النسيان والخوف من الشعور بالفقد أحياناً. لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو وظيفة الكتابة لمن يحبّها كفعل انتصار ذاتي. كلما حضّرت نفسي للكتابة، شعراً ونثراً، أجدني أنسى الموضوع الذي كنت أتحضّر له، أو لعلي أتناساه في سبيل موضوعاتٍ جديدةٍ تداهمني، فأشعر برغبتي في التخلّص منها عبر تدوينها في أفكار، وإن كانت ناقصة. يحدُث هذا كثيرا لي، وأزعم أنه يحدُث لغيري من الكتاب. ولذلك أجدني في حيرةٍ عند محاولة الإجابة عن سؤال الجدوى من الكتابة. من الشعر والنثر. من الكتب وصناعتها في القصيدة والرواية والقصة.

والغريب أنه سؤالٌ ملحٌّ وضروري، كما يبدو، فقلّما نجد لقاء صحافياً يجرى مع أديب ولا نجد هذا السؤال مطروحاً بصيغة أو أخرى. ومع هذا، فهو لا يبدو كذلك فلسفياً بالنسبة للكتّاب والشعراء الذين يكتبون، لا استجابة لاقتراحات هذا النوع من الأسئلة، وإنما تلبية لرغباتٍ غير مفهومة لا يشعرون بالراحة إلا عند الخضوع لها. ورغم أن السؤال حاضر ومتكرّر، فإنّ الإجابات دائماً تختلف، حتى لدى الكاتب أو الشاعر الواحد.

أجتهد كثيرا في البحث عن إجابة مبتكرة عن هذا السؤال في كل مرّة أجدني بمواجهته، ذلك أنّه سؤال متصل ولامتناه، وإجاباته كثيرة بقدر كثرة ما نكتب. لكنني، للأسف، رغم كثرة إجاباتي، أجدني عاجزة عن التوقّف أمام رغبتي الملحّة في ابتكار الإجابات. ربما لأنني أعرف أنها ما زالت إجاباتٍ ناقصة بمواجهة الفكرة الكاملة، وأنها مجرّد اقتراحات على سبيل الكتابة وحسب، وأنني وأنا أكتبها لا أفكّر كثيرا بمصداقيّتها في حالتي الخاصة، وبقدر ما أفكر أنها صالحة لإرضاء رغبتي في الابتكار. لكن الجميل في الأمر أن تفكيرنا في إجاباتٍ عن سؤال الكتابة لا يصدّنا عنها، ولا يجعلنا نتوقّف عن السباحة في بحر الكلمات. الكتابة مستمرّة إذن، وهذا يعني أنها فعل حياة، وأن لها قدرتها الخاصة على الخلود ما خلد البشر على هذه الحياة، وأنها الحلّ السرّي للاحتفاظ بذاكرة الخلق كله. وهو يعني، مرّة أخرى، أن الكلمة ستكون هي الختام كما كانت البدء.

هل نقرّر ذلك، نحن الكتّاب، لأننا منحازون إلى الفكرة، ولأنّنا نمضي في سبيل إجادتها على النحو الذي يُرضي غرورنا الإبداعي، ويُشبع جوعنا اللانهائي إلى الكلمات؟ ربما، ولكن ما يجعل مثل هذا القرار مرضياً لكثيرين من غير الكتّاب أنهم القرّاء، وأنهم مشاركون في الفعل ذاته، فلا يمكن للكتابة أن تكتمل هويّتها بلا قراءة، ولا يمكن للكاتب أن يعترف بذاته كاتباً من دون وجود من يقرأ ما يكتبه. فهي رحلة دائرية مستمرّة ما بين الكتابة والقراءة. ولذلك، فالبحث عن إجابة نموذجية لسؤال الكتابة والجدوى منها لا بد أن يُكمله سؤال القراءة والجدوى منها أيضاً. ولعلّ في هذا الدوران اللانهائي حول الفكرة المفضية إلى السؤال جزءٌ من الإجابة اللامنتهية بدورها. وبالتالي، علينا انتظار مزيد من الإجابات عن سؤال واحد كلما كتب أحدهم وقرأ آخر.

سنبقى نكتب ونقرأ، إذاً، لا بحثاً عن فائدة ولا تحقيقاً لمتعةٍ وحسب، لكن لأن الكتابة والقراءة هما الذاكرة التي ستبقى حيّة دائماً، حتى بعد فناء الكتّاب والقرّاء.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.