الرياض وواشنطن... نار النفط تُشعل الخلافات

22 أكتوبر 2022
+ الخط -

بينما يضم تكتل أوبك بلس 23 دولة، بينها عشر دول خارج منظمة أوبك، فإن السخط الأميركي على قرار التكتل خفض الإنتاج النفطي بواقع مليوني برميل برميل يوميا ابتداء من الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، قد يركّز على السعودية، حيث اعتبرت واشنطن أن القرار يصبّ في مصلحة روسيا العضو في التكتل، فيما ردّت الرياض على الغضب الأميركي بأن القرار أملته اعتبارات اقتصادية لحفظ توازن السوق واستقراره. ولئن كان الحجم الكبير للإنتاج النفطي السعودي (الثاني عالمياً) قد يحمل بعض التسويغ لرد الفعل الأميركي، إلا أن السعودية، رغم الوزن الرائز لها، ليست وحدها صاحبة القرار في أوبك بلس، غير أن للغضب الأميركي خلفية قريبة تعود إلى زيارة الرئيس جو بايدن إلى المملكة في يوليو/ تموز الماضي، والتي استهدفت، بين أمور أخرى، دعوة الرياض إلى زيادة إنتاجها النفطي وخفض أسعاره، وهو ما جعل البيت الأبيض يرى أن قرار تكتل أوبك بلس، يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، موجّهاً ضد واشنطن، وفي وقت حساس أميركياً، مع الاستعداد للانتخابات النصفية للكونغرس، إذ سرعان ما انعكس القرار على المستهلك الأميركي للنفط.

وقد لوحظ أن الولايات المتحدة كانت الأكثر توتراً من بين دول الغرب إزاء قرار تكتل "أوبك بلس"، ولعل ذلك يعود إلى التعطش التاريخي لدى أميركا تجاه النفط السعودي، وليس إلى أن النفط سلعة استراتيجية فقط، وإنما لأن هذه السلعة تدخل في صلب العلاقات الأميركية السعودية، إذ بدأت هذه العلاقات على مستوى النفط في العام 1933، وقبل أزيد من عشر سنوات على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك عبر شركات أميركية بدأت آنذاك التنقيب عن النفط السعودي واستخراجه، حتى نجحت في ذلك خلال العام 1938. رغم عقود على تأميم النفط السعودي، بدأت في العام 1973 وتوّجت بامتلاك كامل شركة أرامكو في العام 1980، فإن واشنطن ما زالت تملك نظرة "شبه استحواذية" إلى الثروة النفطية السعودية رغم سابقة قطع النفط السعودي في أعقاب حرب العام 1973، إذ زادت هذه السابقة من الشهية الأميركية لهذه الثروة، والتي يجرى التزود بها مقابل صفقات تسليح، وحيث تشكّل الأسلحة والتعاون العسكري واسع النطاق ركناً ثانياً من أركان العلاقة الثنائية، إذ رغم الاهتزازات وتباعد وجهات النظر بين الطرفين في محطّات عديدة، إلا أن واشنطن حافظت على ثبات العلاقات مع الرياض، بالاستناد إلى هاتين الركيزتين، إضافة إلى الركيزة الثالثة الخاصة بواشنطن، والمتعلقة بضمان التفوّق الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما كان يتسبب بخلافات مع الرياض في عهد الملك الراحل فيصل وما تبع ذلك من تقدّم الرياض بمبادرة السلام العربية مشفوعة بقبول عربي في قمة العام 2002، والتي قابلتها واشنطن ببرود، ولم تضعها يوماً على أجندتها الإقليمية.

واشنطن والرياض باتتا، في عهد إدارة بايدن، تفتقدان لغة مشتركة بينهما

لا مكان ظاهراً للدولة العبرية في التوتر المستجد بين الجانبين، إلا أنها تبقى في الخلفية. أما التحدي البارز فيتمثل في روسيا وحربها في أوكرانيا والعقوبات عليها، والمخاوف من تزايد النفوذ الصيني، غير أن واشنطن محكومة بقصر نظر ترغب دائما في توجيه علاقتها مع الرياض (ومع غير الرياض) وفق المنظور الأميركي، وتصويره أنه يلبي مصالح الأطراف ذات العلاقة وحقوقها. وأن تنهج الرياض نهجاً أكثر استقلالية عن واشنطن، رغم بقاء التحالف الاستراتيجي بينهما ، فإنه يبدو، في أنظار واشنطن، وبحكم العادة، أمرا غير قابل للتصديق، مع أن دولاً عديدة ذات علاقات وثيقة بواشنطن، من بينها فرنسا وتركيا وألمانيا، تنهج هذا النهج. والحال أن الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، يحوزان هذه النظرة، مع اختلاف في الأسلوب. ولا يتعلق الأمر بتيار ليبرالي و"يساري" أميركي فحسب، إذ سبق أن تعرّضت السعودية لاعتداءات حوثية على منشآتها النفطية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، من دون أن يحرّك الأخير ساكنا. فيما يبرز الملف النووي الإيراني والمفاوضات بشأنه أحد أوجه الخلاف السعودي الأميركي، وكذلك المواقف الأميركية بخصوص الحرب في اليمن، والتي تحمل أحيانا صبغة محايدة. وحتى اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع إسرائيل، فقد بدا أن ثمة تسهيلات إيرانية، من خلال حزب الله، لتمريره، لكن للسياسية دروبها المتعرّجة وأولوياتها لدى كل طرف، فقد نشطت مفاوضات إيرانية سعودية في بغداد، بموازاة مفاوضات الملف النووي الإيراني، وما زالت طهران تعلق آمالا كبيرة بأن تجيز المفاوضات فتح سفارة أو قنصلية إيرانية على الأراضي السعودية، وهو ما لا يلقى قبولاً من الرياض.

ما زالت واشنطن تملك نظرة "شبه استحواذية" على الثروة النفطية السعودية رغم سابقة قطع النفط السعودي في أعقاب حرب 1973

علاوة على ما تقدّم، من البادي أن واشنطن والرياض باتتا، في عهد إدارة بايدن، تفتقدان لغة مشتركة بينهما، وأن سُحُباً من اهتزاز الثقة تحوم من دون توقف في سماء العلاقات الثنائية. وتلعب مقالات انتقادية وتصريحات لأعضاء ديمقراطيين في الكونغرس دوراً بارزاً في إضفاء مزيد من التوتر على هذه العلاقات. وتبدي الرياض حساسية إزاء هذه الحملات، بما يعيد لها أجواء الحملات الأميركية عليها عقب تفجيرات "11 سبتمبر" (2001)، فيما تستشعر الرياض أكثر وأكثر أن واشنطن لم تعد ضامناً لأمن منطقة الخليج، وعلى الأقل منذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي جرى التوصل في عهده إلى الاتفاق الغربي الإيراني على الملف النووي. تصوغ واشنطن منظورها الخاص لأمنٍ إقليمي يتولاه الحلفاء بأنفسهم لا واشنطن (في الحالة العربية والخليجية، حمل بايدن في زيارته السعودية تصوّراً عن تحالف عربي إسرائيلي بديلاً عن ضمانات أميركية مباشرة)، لكن الرياض تصوغ من جانبها منظورها لأمنها الذاتي، وهو ما حمل الرياض على البدء بتنويع مصادر تسليحها وتوثيق العلاقات مع بكين وموسكو وعواصم أوروبية. وفي الخلفية التاريخية أن واشنطن أخفقت إخفاقاً ذريعاً في ضمان تسوية عربية إسرائيلية وفق الشرعية الدولية، وأن بايدن، رغم وعوده، لم ينجز شيئاً على هذا الصعيد، ومع ذلك يدعو إلى حلف عربي إسرائيلي.

والثابت أن الرياض باتت تولي اهتماماً متزايداً لمصالحها وفق أجندتها الوطنية، وأنه باستثناء الحاجة للاحتفاظ بتحالف استراتيجي مع واشنطن، إلا أن هامش سياستها المستقلة يزداد اتساعاً، وهو ما يتبدى في سياستها النفطية القائمة على عدم تسييس هذه الثروة، بل استخدامها لخدمة مصالحها الذاتية، في إطار التعاون ضمن منظمة أوبك وتكتل أوبك بلس، وبغير ارتهان لمصالح آنية وغير آنية للآخرين، بما في ذلك الحليف الأميركي، وهو ما يستحق أن تصغي واشنطن جيداً له، بدلاً من إطلاق التحذيرات بإعادة النظر في العلاقات الثنائية، ما يفاقم من الخلافات.