الرياض... التريّث والتمحيص سيّدا الموقف

05 اغسطس 2023
+ الخط -

في سياق حملته الانتخابية التمهيدية للانتخابات الرئاسية العام المقبل، يواصل الرئيس الأميركي جو بايدن إطلاق الإيماءات إلى أن مشروعه التطبيعي بين السعودية وإسرائيل يُحرِز تقدّما، قائلا أمام احتفالية لتمويل حملته "ربما هناك تقارب جارٍ". وكان بايدن قد أوفد مستشاره للأمن القومي جاك سوليفان مرّتين إلى الرياض في الأسابيع القليلة الماضية لهذا الغرض، الى جانب التحادُث في أمور ثنائية مشتركة بين البلدين. وتبدي وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية اهتماما مطردا بهذه المسألة، فيما تتجنّب الرياض الخوض في هذ الشأن إلا لِماماً وعلى فترات متباعدة.

وبينما يرى بايدن المرشّح شبه الرسمي للحزب الديمقراطي لانتخابات 2024 أن هذا "الإنجاز" إذا تحقق سوف يساعده في حملته الانتخابية أمام أي مرشّح جمهوري، فإن الجانب الآخر، ممثلاً برئيس حكومة المستوطنين في تل أبيب بنيامين نتنياهو، فيسعى إلى قطف هذه الثمرة الكبيرة من دون أن يدفع الثمن المستحق، مراهناً على مواهبه في الخداع وفي التلاعب بالوقائع والكلمات والأولويات، ومن ذلك تبشيره بإقامة خط سكة حديد يربط تل أبيب بالرياض والعواصم الخليجية، مع حرصه التام على بقائه في الحكم مدعوما من شرذمة إرهابيين متطرّفين، وكما تجلى ذلك في التصويت الأول في الكنيست على التعديلات القضائية، حيث ظهر تماسُك ائتلافه.

وفي هذه الأثناء، ومع وعيها مصالحها الوطنية وتقديمها هذه المصالح على غيرها، تُدرك الرياض جيدا الرمزية الهائلة والكبرى في التطبيع مع دولة مارقة تتحدّى القرارات الدولية والقانون الدولي، وتنكر موجبات السلام، وتبشّر على ألسنة النخبة الحاكمة الأشد تطرّفا بتصفية كل حق من الحقوق الوطنية الفلسطينية، مع ما لذلك من انعكاساتٍ عميقةٍ على الرأي العام العربي والإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها. ولعل هذا هو السبب الرئيس في ما تُبديه الرياض من حذر وتريّث شديدين، بما يجعل الرياض ليست على عجلة من أمرها، وفق اعتراف صحيفة هسرائيل اليوم.

إن مسؤولين كثرا في الإدارة الأميركية، بمن فيهم بايدن، يقرنون، في العادة، أحاديثهم الروتينية عن حلّ الدولتين مع التصريح بأن هذا الحلّ بعيد المنال

وإلى جانب هذا المعطى المعنوي والاستراتيجي، تدخل الرياض في جولة اختبار مشروعة مع الإدارة الديمقراطية ومع الكونغرس: فهل واشنطن على استعداد لوضع ترتيبات أمنية ثنائية تمكّن السعودية من الإفادة من الامتيازات التي يتمتع بها أعضاء حلف الناتو؟ وهل واشنطن على استعداد لتمكين الرياض من بناء قدرات نووية لأغراضٍ مدنية؟ وهل تقبل واشنطن بتزويد الرياض بأسلحة وتجهيزات عسكرية متطوّرة، كما هو الحال مع بعض حلفائها؟ علما أن أوجه التعاون المنشودة هذه ليست بالمجان، وليست من قبيل المِنَح كما هو الوضع مع الدولة الإسرائيلية التي تواصل صلفها وتوسّعها بدعم منقطع النظير من الإدارات المتعاقبة في واشنطن، فيما تفيد تقارير إعلامية بأن ثمّة قدرا من الانقسام في صفوف المشرّعين الديمقراطيين حيال هذه المطالب المشروعة لطرفٍ حليف تاريخيا، وذي مكانة كبيرة ومطّردة في المعادلات الإقليمية والدولية. وهو ما يجعل المراكز الدولية تتنافس في نسج علاقات متطوّرة مع الرياض، ومن بينها الصين، التي تسعى إلى ملء الفراغ أو الفجوات التي أحدثتها واشنطن في علاقتها بالرياض خلال العقد الأخير على الأقل. وعلى الرغم من ذلك تبدي واشنطن ما يشبه الاستغراب والتفاجؤ من هذه التطوّرات، مع أنها لا تعدو كونها نتيجة منطقية للسياسات الأميركية التي شابها اضطرابٌ في عهود ديمقراطية وجمهورية، علاوة على أنها حقّ سيادي لأصحابها في توسيع نطاق العلاقات مع المراكز الدولية، وبخاصة بعدما غدت السعودية في عداد مجموعة العشرين، بل سبق لها أن تولّت رئاسة المجموعة الأكثر تطوّرا ونفوذا على المسرح الدولي.

ويسترعي الانتباه أن واشنطن تسعى إلى دفع الرياض نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، متجاهلة الحاجة لبذل جهد نوعي لإحياء عملية السلام الشرق أوسطية، والتي من شأن نجاحها أن يؤدّي حكما إلى موجة تطبيع مع تل أبيب، وقد تشمل الرياض. عوضا عن ذلك، اختارت إدارة بايدن الانتقال إلى نتيجةٍ مفترضةٍ بعينها من دون وضع المقدّمات اللازمة، وقد اختارت أن تعبر طريقا فرعيا ملتوياً، بدل أن تشقّ طريقا نحو السلام، بل إن مسؤولين كثرا في الإدارة، بمن فيهم بايدن، يقرنون، في العادة، أحاديثهم الروتينية عن حلّ الدولتين مع التصريح بأن هذا الحلّ بعيد المنال، وهو ما يطمئن أعداء السلام في تل أبيب بأنه ليس في الجعبة الأميركية سوى إطلاق التصريحات، وهو ما يحفز نتنياهو على القول إن جهده ينصبّ على اقتلاع مطلب إقامة دولة مستقلة من نفوس الفلسطينيين، من غير أن يثير تصريحه هذا حفيظة أحد في الإدارة الديمقراطية، والأسوأ أن الضمّ التدريجي للضفة الغربية المحتلة قائمٌ على قدم وساق عبر الغزو الاستيطاني الزاحف.

تسعى واشنطن إلى دفع الرياض نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، متجاهلة الحاجة لبذل جهد نوعي لإحياء عملية السلام

أما المطالب السعودية من واشنطن فإن أمامها، كما هو بادٍ، طريق طويل وعسير من المباحثات، فيما لم يبق أمام الإدارة سوى عام قبل التفرغ التام للحملة الانتخابية الرئاسية. وقد تتلقّى الرياض خلاله وعودا جزئية أو بدائل ومقترحات ما للالتفاف على بعض المطالب، من دون استبعاد وقوع مفاجآت من واشنطن أو عرض "صفقة" ما، إذا ما اصطدمت المباحثات بحائط مسدود. هذا مع اعتبار أن الرياض قدّمت مؤشّرات إلى استعدادها المبدئي لفتح ملفّ التطبيع، من قبيل السماح لرحلاتٍ تجاريةٍ إسرائيليةٍ نحو آسيا بعبور الأجواء السعودية، وكذلك السماح لبضعة أفراد إسرائيليين رجال أعمال وصحافيين بزيارة المملكة، وقد لوحظ أن هذه المبادرات جاءت متزامنة تقريبا مع التقارب السعودي الإيراني، وهي مؤشّرات كافية إلى "مرونة" سعودية في هذا الصدد، إذ إنه تم تقييد الزيارات، وربما حظرها بعدئذ.

تبقى الإشارة، في هذا المعرض، إلى أهمية إجراء تنسيق سعودي مع الأطراف العربية المعنية، وعلى الأخص الطرفين الفلسطيني والأردني، إذ إن انعطافة كبرى إذا تحققت فلسوف تنعكس، بصورة مباشرة وبالغة الأثر، على الأردن والسلطة الفلسطينية، وهو ما تدركه الرياض جيدا، وذلك بخبرتها التاريخية الغنية في التفاعل المتواصل مع القضايا العربية والتأثير بها، منذ منتصف القرن الماضي وحتى أيام الناس هذه وبغير انقطاع.