الرياضة بوصفها غشاً وسنداً

17 ديسمبر 2022

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

فوجئ العالم في عام 1996 بفوز السورية غادة شعاع بالميدالية الذهبية لألعاب القوى في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأميركية. سبب المفاجأة واضح، أن شعاع من بلد غير معروف بإنجازات رياضية على مستوى عالمي. حينها لام صحافي أميركي نفسه لأنه لا يعرف شيئاً عن هذا "المصنع" الرياضي السوري الذي وصل إلى درجة تأهيل لاعبةٍ مثل غادة شعاع، وقال "لا شك في أن هذه البؤرة الرياضية المهملة سوف تنتج المزيد من الأبطال". ثم أدرك هذا الصحافي، مع الزمن، كم كان ساذجاً.

وصلنا نبأ هذا الإنجاز "السوري" إلى سجن تدمر عبر القناة الوحيدة المسموحة، وكانت النافذة الوحيدة لنا لمعرفة ما يجري وراء جدران السجن، وهي صحيفة رسمية لها النصيب الأكبر من نقيض اسمها. نشرت "البعث" حينها قول الصحافي الأميركي المذكور مع تعليق آخر يقول إنه حين يتقابل السوريون في صبيحة هذا النصر، يستبدلون عبارة "صباح الخير" بكلمة "مبروك". والحقيقة أننا، في السجن أيضاً، فرحنا بميدالية غادة شعاع.

سيفرح أبناء البلد لنجاح من تعود أصوله إلى بلدهم، حتى لو كان يمثل بلداً آخر

من الطبيعي أن يفرح أي شعبٍ بأي إنجاز يحقّقه أحد أبنائهم، حتى لو جاء هذا الإنجاز محمولاً على أيدٍ أجنبية. ومعروفٌ أن تأهيل البطلة الأولمبية السورية كان في "مصنع" روسي وليس سوري. ومن الطبيعي أن يفرح أبناء البلد بنجاح ابنهم، حتى لو كان صاحب الإنجاز قد ولد ونشأ في الخارج، وحتى لو كان لا يجيد لغته الأم. سيفرح أبناء البلد لنجاح من تعود أصوله إلى بلدهم، حتى لو كان يمثل بلداً آخر. لقد فرح السوريون بنجاح ستيف جوبز حين علموا أن أباه سوري. هذه أشياء لا يحقّ لأحد نكرانها على أحد. ولا يخفى على أحد حاجة الناس، وبوجه خاص العرب المشبعين إحباطاً، إلى الشعور بالنصر وإلى استعادة الثقة بالنفس وإلى تغذية الحافز والتطلع.

ولكن ما يمكن التوقف عنده أولاً الانطباع المغشوش الذي يمكن أن تعطيه وقائع رياضية معينة، ويمكن أن تُبنى عليه مواقف وتحليلات بعيدة عن الواقع. وثانياً الاستغلال السياسي لهذه الوقائع أن يستخدم نجاح رياضي ما للتشويش أو التغطية على فشل عام يكون أساسه، غالباً، فشل سياسي.

يطرح الحضور المفاجئ للمنتخب المغربي في مسابقة بطولة كأس العالم الجارية في قطر مجدّداً موضوع الرياضة بوصفها نشاطاً يسمح بنوع من الغشّ المتعدّد الجوانب، سيما أن إعداد فريق كرة قدم قادر على المنافسة بات عملاً يحتاج إمكانات كبيرة وأجواء لا تتوفر في بلدان يسيطر على السلطات فيها الهاجس الأمني الذي يستهلك أموال البلد ونفوس أهلها.

تتبنّى السلطات السياسية أي إنجاز رياضي على أنه نجاح لها، وأنه دليل على تقدّم ما، من شأنه أن يقلل من حدّة الانحطاط العام

الغش الأول إبراز صورة متطورة عن واقع هزيل. يقع المراقب الخارجي ضحية هذا الغش، ويبني تصوراً غير صحيح عن واقع البلاد التي "أنتجت" هذا المنتخب. والثاني، غش ذاتي، إذا جاز القول، يقع فيه أهل البلاد، أي من يعرفون جيداً واقعهم، ولكنهم يحبّون أن يتوهموا مع بريق "الإنجاز" الرياضي، فيعتبرونه مثلاً دلالة على "مخزون حضاري" يميزهم، من دون أن يشغلهم السؤال: كيف لا ينعكس هذا المخزون على المستوى العام لحياتهم. والغش الثالث هو حين تتبنّى السلطات السياسية هذا الإنجاز أنه نجاح لها، وأنه دليل على تقدّم ما، من شأنه أن يقلل من حدّة الانحطاط العام.

أساس هذا الغش المتعدد نسبُ النجاح إلى البلد، في حين أن المنتخب ليس صناعة "بلدية"، إنه أشبه ما يكون بعملية استيراد للنجاح الرياضي، العملية التي توفرت لها في هذا العصر شروط جعلتها ممكنة. صار من الممكن للاعبين الأفراد أن يستفيدوا من الإمكانات التي توفرها بلدان متطوّرة قياساً على البلد الذي ينحدرون منه، أو ينحدر منه آباؤهم أو أجدادهم، وأن يطوّروا مهاراتهم في هذه البلدان، ثم يمكّنهم أن يمثلوا بلدهم في المنافسات الدولية. معلوم أن 14 لاعباً من المنتخب المغربي نشأوا وتدرّبوا في بلدان وأندية أوروبية ويحملون جنسيات هذه البلدان، ولكنهم يحملون المغرب في نفوسهم، ويعتبرونه "مسقط قلبهم" حسب تعبير اللاعب الدولي أشرف حكيمي الذي سبق له أن لعب لصالح منتخب شباب إسبانيا. كما هو حال اللاعب حكيم زياش الذي يحمل الجنسية الهولندية، ولكنه اختار، رغم المحاولات الهولندية، تمثيل المغرب في المنافسات الدولية. ومن باب التخيّل والحلم بتوفير الصعاب، يتمنّى المرء لو تتوفر شروط موازية تجعل من الممكن أيضاً استيراد نجاح سياسي، على غرار استيراد النجاح الرياضي.

في شروط هذا العصر المهووس بالمنافسات الرياضية، يمكن أن يتحوّل الرياضيون إلى روافع لبلدانهم المغمورة

جانب آخر يبرزه النجاح المغربي الملفت في هذه البطولة العالمية، دور الرياضة، وبشكل خاص كرة القدم، بوصفها محط أنظار العالم، في إشباع حاجة الأمم المهمّشة إلى الاعتراف، وشعور الفرد المتحدر من هذه الأمم بقدرته على لعب دور إزاء استضعاف أمته. حين يرفض الحارس المغربي القدير، ياسين بونو، أن يتكلّم بغير اللغة العربية في مؤتمر صحافي، مع أنه يجيد الفرنسية والإنكليزية والإسبانية أكثر مما يجيد العربية، فإنه يستخدم نجاحه الفردي في انتزاع اعتراف بلغة ضعيفة الحضور عالمياً نتيجة ضعف الدور الحضاري العام لأصحابها. وحين يراقص اللاعب المغربي البارز سفيان بوفال والدته بلباسها المغربي الشعبي البسيط، فرحين بالفوز الثمين على منتخب البرتغال، تحوز اللقطة على انتشار وإعجاب واسع لأنها مرفوعة على أعمدة من الجدارة، هذه التي تسمح لنا أن نظهر كما نحبّ، وأن يفتح العالم قلبه لهذا الظهور. الشيء نفسه يمكن قوله عن حركات رمزية أخرى، منها حركة السجود عقب تسجيل الأهداف، وإبراز العلاقات العائلية التقليدية الحميمة بين اللاعبين وأهاليهم.

في شروط هذا العصر المهووس بالمنافسات الرياضية، يمكن أن يتحوّل الرياضيون إلى روافع لبلدانهم المغمورة. يمكن ببساطة أن يكون اللاعب أكثر شهرة من بلده، وأن ينسب البلد إلى شخص. ومع السطوة الإعلامية الكاسحة، يمكن لفردٍ واسع الشهرة، في الرياضة أو الأزياء أو الغناء أو ... إلخ، أن يؤثر في قضايا كبيرة، وأن يستجلب شيئاً من الاعتراف لبلد.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.