الرواية التي دوّختني

26 مايو 2023

(الهادي التركي)

+ الخط -

عندما يفوز كتابٌ بجائزة، يفتخر مواطنوه بأن هذا الفوز انتصار للأدب في بلدانهم وتألّقٌ له. حتى لو لم يحمل الكتاب ملامح قوة وعمق. لا تظن أنّ العقلية القبلية انتهت مع حروب داحس والغبراء، والبسوس. فهي ما زالت سائدة، في كل مجالٍ بما فيها الأدب. وجوائز الرواية خير دليل. ليس للشّعر وليٌّ ينشئ جائزةً تواكب اتجاهات الشعر المعاصر، بدل إحياء الذي مات ودُفن ونُسي، لذا هو معفيٌّ من جدل الاستحقاق. لكن للرّواية أنصارا وأحبارا ومكاسب تُسيل اللعاب، وما من عيب في ذلك، فمبلغ أي جائزة منها يغير حياة الكاتب. العيب في أنّها مزاجية، وفي أنّها ذات هوى يميل يميناً وشمالاً بخفّة مروحة.

لا نعرف لماذا فاز هذا دون ذاك؟ رغم أن الأخير قد يكون مرشّحاً أقوى بنظر كثيرين. في الوقت نفسه، يقع المعترضون في وادي التعصب لابن البلد. انصُر أخاك جيّداً أو رديئاً. "فلا تهم قيمة الرواية المتنافسة، لكني مع الرواية التي تحمل جنسيتي". مع أنّ الرواية إذا لم تكن مكتوبة جيدا لا أثر لها، ولا للفخر الذي يتمنّاه الوطنيون. كم من رواياتٍ تحمل "ثقافة بلد وعاداته" ونسيناها جميعاً حتى قبل قراءتها. يكفي فقط الاطّلاع على هامش الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). حيث كثيرون على باب الحميّة القبلية قليلون على باب الأدب.

وفي النتائج، بغضّ النظر عن المقارنة بين الأعمال المرشّحة، التي قرأت منها القليل، ولذا لا يمكن التعليق على أحقّية رواية "تغريبة القافر" للعُماني زهران القاسمي بجائزة بوكر الأولى أخيرا مقارنة مع باقي الأعمال المتنافسة، رغم أنها رواية ممتعة وخفيفة على روح القارئ. إنما لفتني التتويج المتتالي للرواية العُمانية. فهل تعوّض الجوائز العربية تجاهلها جوخة الحارثي فتُتوّج الأعمال العُمانية التي تترشّح للجوائز، "تغريبة القافر" في "بوكر" بعد "دلشاد" لبشرى خلفان في جائزة كتارا للرواية العربية؟

قرأت الأعمال الفائزة و"سيّدات القمر" لجوخة الحارثي. ومن دون وعي وجدتني أولا أُعجب بالطفرة التي تعرفها الرواية العُمانية، لكني لم أستطع تجاهل انطباعي بأنها تتّسم بطابع شبه موحّد، يعمل على تسجيل الحياة ما قبل الرخاء النسبي الذي جاء به النفط. وكثافة حياة الإنسان آنذاك رغم قساوة الصحراء الشديدة. لكني أخشى أننا سنحبّ أكثر من طرق الباب أولاً، مثلما فعلنا مع أي تجارب أخرى، مثل الواقعية السحرية اللاتينية، التي بعد أن انفجرت بين يدي ماركيز، ووجد كل الذين جاءوا بعده أن القارئ قد شبع، وانكشف له سحر هذه الكتابة مع ماركيز.

لنأخذ نموذج إيزابيل أليندي، رغم أن لها رؤية أنثوية لهذه الواقعية، لكنها لم تكشف جديدا لأنه مهما حملتها الميتافيزيقا بعيدا لن تصل إلى مستوى مخيّلة ماركيز. تبقى نقط الضوء الأساسية في رواياتها، هي بعض التفاصيل التي لا يمكن إلا لامرأةٍ ذات خيال ومهارة، أن تلتقطها. لكنني حالما أنهي قراءة رواية لها حتى أنساها، ويختلط عليّ ما أذكره منها على ضآلته. بينما مرّت عقود على قراءة "مائة عام من العزلة"، مع ذلك ما زالت شخوصها وروحها أمام عيني كأنني عرفتهم يوما على غرابة البعد الذي عاشوا فيه من العالم.

قدّم محمد شكري "الخبز الحافي" الذي كان متأثرا فيه بالغذاء العاري لوليام بوروز، وموجة الأدب الذي واكب صرعة الهيبيين، فلفت الانتباه لأنه حقّق ريادة في اللغة التي كتب بها. بعدها جاء كثر وكتبوا على منواله، ولم يثيروا انتباهاً كبيرا، لأن هذا النوع الأدبي، مثل الواقعية السحرية، يُستنزَف بسرعة، وأهم نقاط قوته جدّته للقارئ، الذي يكتشفه أول مرة. مع العلم أن ماركيز يفوت هؤلاء جميعاً، فهو كاتب رهيب، وحتى وهو يشتغل على الموروث والأساطير، وحكايات الأجداد.

يمكن أن نعمل على خرافة أو أسطورة أو حكاية شعبية بسيطة، لكن ما يهم طريقة كتابتها، وكثافتها وعمقها. وإلا فسنبقى نحكي التاريخ والأساطير، والحكايات الشعبية، ولن نبني أدباً حقيقا بذلك. دليلنا في الأدب العالمي رواية "الأشياء التي تتداعى"، تحكي عن زمن الأجداد قبل الاستعمار. لكن قوتها لا تكمن في عوالمها فهي محدودة وساذجة، وغير ذات خصوبة خيالية مثل ذهنية الشعوب اللاتينية، ولكن مهارة كاتبها النيجيري تشينوا أتشيبي رسّخت هذا العالم البسيط حتى الملل، في ذهن القارئ.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج