الربيع العربي ومطلب الانتقال الديمقراطي المزدوج

03 ابريل 2019
+ الخط -
 
 
 
 
إلى حيدر سعيد
في ربوع تونس، في مفتتح شهر مارس/ آذار الماضي، شكلت الندوة الفكرية السنوية التي أقامتها مجلة عمران في رحاب المكتبة الوطنية فرصة لمناقشة قضايا مصيرية بالنسبة للمجتمعات العربية، تعوّدنا على رؤية وسماع القسم الأكبر من السياسيين، وأتباعهم من المشتغلين بحملاتهم الدعائية، يُتفهونها، أو يطمسونها، أو يعبرون عن جهلهم بأصولها الدفينة، وحتى بصلاتها بالسطح الذي يتحرّكون فوقه، وخصوصا بتأثيرها القوي في الأحداث. وقد التقط الباحث حيدر سعيد الذي حضر الندوة هذا الخيط، وأسئلته التي فاض بها النقاش، في مقالته في "العربي الجديد" (26 /3 /2019). هذا المقال المقتضب هو رد للتحية بمثلها، ومواصلة للتفكير في تلك القضايا.
ما هو السؤال الذي فجر السيل العارم من النقاش، المتحمّس جدا أحيانا، والذي أثار صديقنا حيدر؟ كان السؤال: هل وراء الربيع العربي فردانية اجتماعية فرضت تمثلا جديدا لشروط الحياة العصرية، من ركائزها الحريات والحقوق الفردية؟ في الجانب الشكلي من السؤال ثلاثة مفاهيم فقط: الحريات، الأفراد، المجتمع، لكن جوفه كان يتضمن كل القضايا التي تخوض فيها حاليا الدراسات العالمية والمحلية بشأن "الربيع العربي"، كما ينظر إليه من الداخل ومن الخارج: هل هناك مفهومٌ كونيٌّ للحريات والحقوق الفردية؟ هل تولد الفردانية الاجتماعية التي أرست التحولات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية العالمية أسسها العلائقية المفاهيم نفسها للحريات والحقوق في كل مكان وداخل كل ثقافة؟ ما علاقة ذلك بمطالب الديمقراطية في كل مكان من العالم العربي، حتى وإن اختنق المطلب بالسيف المسلط على أصحابه هنا وهناك؟ وهل هناك كونية تحكم هذه التحولات والمطالب؟ وإذا لا، فما الشكل الذي يمكن أن يأخذه التحول الديمقراطي (إن تحقق) في مجتمعاتنا، وما مضمونه الثقافي؟
يلاحظ حيدر سعيد، انطلاقا مما طرحته ندوة "عمران" في تونس، أن النخب الثقافية التونسية تعطي لحركتها "إطارًا محليًا، يُجنّبها من أن تُختزَل إلى كونها مجرد صدىً باهت لحصيلة 
الحداثة الأوروبية"، وهي تحتج في ذلك بقدم حركة التحديث في بلادها منذ ما قبل الاستعمار. وفي الحقيقة، لا ينكر التونسيون تأثرهم بموجات التحديث التي شغلت أوروبا، خصوصا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأثرت في الدولة العثمانية التي كانت علاقتها مع تونس آنذاك شكليةً إلى الحد الذي كان فيه باي (باشا/ سلطان) تونس يجهل اللغة العثمانية، ويستخدم مترجما لفهم ما يقوله مبعوثو الباب العالي. لكن مؤرخين تونسيين أثبتوا أيضا أن الدولة التونسية سلكت مبكرا نهج المركزة واختراق المجموعات القبلية، في فترةٍ ليست متأخرة كثيرا عن الفترة التي كانت فيها الدولة - الأمة الأوروبية الصاعدة تقوم بالشيء ضد الكيانات الإقطاعية: لقد قال أحد بناة تونس الحديثة من البايات في القرن الثامن عشر، معبرا عن اختراق دولته كل الأوساط، وسيطرتها الكاملة على مجال السيادة: الآن صارت "أفريقية (تونس) كسجادة طويتها وجلست عليها".
هل هناك علاقة دفينة بين هذا القول ومنجزه التاريخي الذي زاد فيه المستعمر ودولة الاستقلال من جهة، والشكل الذي أخذته الثورة التونسية، ومضمون مطالب القسم الأكبر من نخبتها الفكرية الحداثية؟ خلال أيام الندوة، كان هناك نقاش صاخب يجري بين المثقفين والسياسيين التونسيين، بشأن طرح رئيس الدولة مقترحا تشريعيا، مضمونه الدعوة إلى التحرّر من ظاهر قول القرآن في موضوع الإرث، والمضي في تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة في هذا المجال، لأن ذلك من مقاصد الشريعة.
هنا تبرز فكرة أن أسئلة الثورة التونسية، وحتى الثورة الجزائرية الحالية، لا تتعلق ببناء الدولة وتحقيق الاندماج الاجتماعي ومناقشة قضايا المذهب والطائفة وغيرها، كما هو سائد في مناطق كثيرة في المشرق، بل بالتأسيس لمتخيل إيديولوجي اجتماعي، ينزع عن "الغرب" مركزيته الأخلاقية والفكرية التي يعتقد من خلالها أنه مخترع قيم الحرية والعدل والمساواة والحضارة بصفة عامة، وأن الثورات الجارية الآن في العالم إنما تتكلم باسم اختراعاته "الإنسانية" التي أصبحت كونية.
لقد تعلق الجدل والنقاش حامي الوطيس الذي عرفته الندوة تحديدا بهذه المسألة الخطيرة، ذات 
الصلة بتمثّل الذات، ليس من باب امتداد تجربتها التاريخية الخاصة فحسب، بل من باب ابستمولوجيا التمثل المعرفي لحدث "الربيع العربي" في حد ذاته. وهنا تكمن المفارقة: ففي الوقت الذي يتمثّل فيه الفكر السياسي الغربي أحداث "الربيع العربي" على أنها تدخل بيسر في براديغما " التحول الديمقراطي" و"الوضعيات الانتقالية" التي أنتج بشأنهما نظريات مميزة وأدبيات وفيرة، تطرح الثورة في تونس والجزائر، وكذا الحراك غير المركز الجاري حاليا في المغرب، قضايا تخصّ طبيعة المضمون الكيفي، الأخلاقي والإنساني، لهذه الثورات ومجال تقاطعها وتباعدها مع النمط السائد في المخيال "الغربي".
في هذا المستوى، تبرز لنا بوضوح أسئلة المحلي والكوني، الداخلي والخارجي بلغة الأنثروبولوجيا، من منظور هذه الثورات: على سبيل المثل، هل تبني قانون المساواة في الإرث مطلب جماعي أم فئوي؟ وهل فيه تناقضٌ مع ما جاء به القرآن الذي هو أساس عقيدة المسلمين؟ وفي المقابل: هل الأفكار التي قامت عليها جميع الثورات في التاريخ كانت يوما ما إنتاجا غير نخبوي؟ وهل كانت، في يوم ما، علاقة المسلمين بالقرآن شيئا آخر غير أنها تأويلية؟
في لحظة الاستناد إلى القرآن، والتمسّك بمعايير تجربتنا التاريخية التي لم تبلغ درجة التأزم، نحن إلى حد كبير في المحلي. أما في لحظة التأويل، وسيلتنا في فهم علاقتنا بذاتنا بصفتنا منتجين للثقافة، فنحن إلى حد كبير في الكوني، إذ إننا لسنا وحدنا من يتكلم في العدالة والحرية والإنسانية، ولسنا منقطعين عن آليات إنتاج القيم والأسئلة الكونية. الوعي بهذه النقطة هو الذي سيجعلنا ننظر إلى الهزائم التي مني بها من سيطروا في فترات محدّدة على جامع الزيتونة والأزهر، عندما رفضوا التجديد بوصفه سعيا تأويليا نحو الكوني المُغَرِب، على أنها انتصار للانفتاح ضد الانغلاق، وللحياة ضد الموت. رحم الله الطاهر الحداد الذي كتب في ثلاثينيات القرن الماضي كتابا بقي غير معروف حتى 2018 عنوانه: الجمود والتجديد في قوتهما... فلننتصر لقوة التجديد من الداخل ولكن بأفق كوني.. ولتسقط عروش القناعات البالية.
مولدي الأحمر
مولدي الأحمر
أكاديمي تونسي، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في معهد الدوحة للدراسات العليا. نشر وترجم العديد من الكتب والمقالات، متخصص في الشؤون التونسية والليبية.