الذهب لإعادة أموال المودعين في لبنان
أعلن نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعادة الشامي في مقابلة تلفزيونية (قناة الجديد، 3/4/2022) أن الدولة اللبنانية أفلست، وأفلس معها المصرف المركزي اللبناني. وقد أثار تصريحه هذا امتعاضاً كبيراً لدى المصارف اللبنانية، واستغراباً في الوقت نفسه عند خبراء المال والاقتصاد. ومدعاة هذا الامتعاض والاستغراب أن الدولة اللبنانية التي توقفت عن دفع أقساط ديونها باليوروبوند في 7/3/2020، وهو ما كان بداية الأزمة المالية والنقدية بصورتها الكارثية، لم تجعل أحداً يتجرّأ على القول إن الدولة اللبنانية أفلست حقاً، فالتوقف عن الدفع مصطلح محاسبي وقانوني ينطبق على الشركات المساهمة والمصارف وشركات التضامن والأفراد، وهو يعني الإفلاس بالفعل، لكنه لا ينطبق على الدول؛ فالدولة ليست شركة تجارية كي تُفلس. إنها تصبح، في حال توقفها عن الدفع، مدينة، أو متعثّرة. غير أن ثمة وقائع في التاريخ القريب تؤكد إفلاس بعض الدول، وحتى الإمبراطوريات كالإمبراطورية العثمانية.
في سنة 1875، أعلنت الإمبراطورية العثمانية إفلاسها، وعدم قدرتها على سداد ديونها. وعلى الفور، عمدت الدول الدائنة إلى تأليف هيئة دولية (أوروبية بالتحديد) دُعيت "إدارة الدين العام العثماني"، تمكّنت من إمساك مالية الدولة، وشرعت في جباية الضرائب لمصلحتها، وكان من صلاحيتها منح الامتيازات وتوقيع عقود الاستثمار. ومن بين تلك الامتيازات "البنك السلطاني العثماني" و"شركة حصر التبغ والتنباك" (الريجي). أما البنك السلطاني العثماني فأُسس بأموال فرنسية وبريطانية، ونال الحقّ الحصري في إصدار العملة الورقية وإدارة أملاك الدولة، علاوة على العمل المصرفي الطبيعي. فيما كانت شركة حصر التبغ والتنباك تستولي على 25% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في جميع أنحاء السلطنة العثمانية بين الأعوام 1881 و1914. وفي زمن الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان، جرى تجديد امتياز البنك السلطاني العثماني، لكن تحت اسم جديد هو "بنك سورية ولبنان الكبير". ثم غُيّر الاسم إلى "بنك سورية ولبنان" الذي ما زال يعمل، وكانت أغلبية المساهمين في البنك الجديد من الفرنسيين. وقد أدار "بنك سورية ولبنان" مصالح الرأسمال الفرنسي وتوابعه من المستثمرين السوريين واللبنانيين أمثال آل صحناوي وآل فتّال السوريين وآل كتّانة اللبنانيين. لكن، في خمسينيات القرن العشرين، بعد النكبة الفلسطينية مباشرة، بدأ الرأسمال الأميركي يحلّ بالتدريج في محل الرأسمال الفرنسي جرّاء تعاظم قطاعات النفط في الدول العربية التي امتلكت خطوط التابلاين Tapline من السعودية إلى خزّانات الزهراني جنوب مدينة صيدا، وخطوط IPC (شركة نفط العراق) من كركوك إلى حمص فإلى خزانات مدينة طرابلس (راجع: هشام صفي الدين، رجالات الاستقلال: الأوليغارشيون الأوائل، بيروت: المفكرة القانونية، 6/5/2021).
مجموع ديون الدولة اللبنانية للمصارف ومؤسسات الإقراض المحلية والدولية يُسمى "الدين العام"، وقد بلغ في أواخر عام 2021 نحو 69 مليار دولار
مجموع ديون الدولة اللبنانية للمصارف ومؤسسات الإقراض المحلية والدولية يُسمى "الدين العام"، وقد بلغ في أواخر عام 2021 نحو 69 مليار دولار. والآن يحاول شياطين المال الاحتيال على المصطلح، فيغيّرون وصفه القانوني من دين إلى خسائر؛ وهو ما يعني أن المدينين أمثال أصحاب الودائع قد خسروا ودائعهم جرّاء إفلاس الدولة مثل أي دائن لشركة استثمارية، الذي يخسر ديونه، كلها أو بعضها، في حال أفلست الشركة. التوصيف القانوني في هذه الحال مهم جدًا لحسم المجادلة في هذا الأمر: هل هي ديون أم خسائر؟ فإذا اعتُبرت خسائر، وهي ليست كذلك، فالمتوقع توزيع الخسائر على مصرف لبنان والمصارف والمودعين. وإذا اعتُبرت ديونًا، تفرض القوانين على المدين ردّ الديون إلى أصحابها كاملة مع فوائدها، ومع غرامة التأخير أو غرامة الإضرار بمصالح صاحب الدين جرّاء التأخر عن سداد الدين في موعده.
التوصيف القانوني لحال الودائع، مثل التوصيف الجرمي للجرائم، ضروري جداً للسير في إجراءات استعادة أموال المودعين، وتكييف المواد القانونية مع الأوضاع الناشئة، لمواجهة محاولة شطب 69 مليار دولار من أموال المودعين. أي تحميل المصارف والمودعين عقابيل نهب المال العام والخاص. والحقيقة أن العالم لم يعرف دولة، غير لبنان، استدانت وتمادت في الاستدانة، ونهبَ رجالُها مبالغ هائلة من هذه الديون، ثم ها هي تريد أن تُلغي ديونها كلها من جانب واحد، ورغماً عن أصحاب الديون. والمنطقي أن الدولة التي استدانت من المصارف (أو من مصرف لبنان) التي لم تبخل عليها بالقروض من أموال المودعين، عليها أن ترد تلك الأموال إلى أصحابها كاملة مشفوعة بتعويضات شتى.
أي دولة "أفلست" أو توقفت عن الدفع أو تعثرت أو صارت مُعسرة تستطيع أن تعيد تكوين أصولها بالتدريج
.. أي دولة "أفلست" أو توقفت عن الدفع أو تعثرت أو صارت مُعسرة تستطيع أن تعيد تكوين أصولها بالتدريج، من خلال بيع جزء من الأراضي التي تمتلكها والمتروكة كمشاع والمهملة تماماً، ومن خلال تأجير مرافق عامة للقطاع الخاص (الخصخصة)، أو بيعها إذا اقتضت الضرورة، مثل الموانئ والمطارات وشركات الاتصالات والطاقة وغيرها، أو أن يُباع جزء من سبائك الذهب المخزّنة في مصرف لبنان في بيروت، وفي خزانة الذهب في فورت نوكس في الولايات المتحدة، والتي يدفع لبنان رسوم تخزين وتأمين عليها.
يمتلك لبنان نحو سبعة ملايين أونصة من الذهب، أو 278 طناً، ما قيمته نحو 18 مليار دولار. ويستطيع لبنان بيع قسم من هذا الذهب (تسييل الذهب)، أو رهنه لقاء قروض طويلة الأجل بفوائد مخفضة. ومع أن الإقدام على تسييل جزء من الذهب يثير مخاوف شتّى، ويحتاج إلى قانون يصدره مجلس النواب، إلا أن الذهب كان دائماً نوعاً من الاحتياطي المالي للدولة، وهذه هي قيمته الحقيقية، وليس لأنه كان يعتبر غطاء للعملة، وهذه ليست ذات شأن كبير بعد انتهاء اتفاقية برايتون وودز في 15/8/1971، وانتهت معها قاعدة تثبيت الدولار على الذهب.
بيع بعض عقارات الدولة من الشركات العقارية الخاصة خير من تركها للنهابين من قادة أحزاب الأمر الواقع
أخبرني الصديق والزميل في صحيفة السفير، حسن يوسف، حكاية جرت وقائعها في بلدة شمسطار البقاعية اللبنانية، فقال إن شخصين اقتتلا في ساحة البلدة، وتمكّن أحدهما من إلقاء الثاني أرضاً، وجلس فوقه وراح يوجه اللكمات إليه. وكالعادة هُرع الرجال الموجودون في الساحة لفك التضارب. وحين كانوا يسحبون مَن كان ملقى على الأرض، وينفضون عنه التراب، لاحظوا أنه يحمل مسدساً على خصره تحت قميصه، فقالوا له مندهشين: لو أنك شهرتَ مسدسك لهرب خصمك، وفي أسوأ الأحوال، لو أنك أطلقتَ طلقة في الهواء، لكان ولّى غريمك هارباً. فلماذا لم تفعل؟ فأجاب والجدّية تغمر ملامح وجهه: لا، هذا المسدس مرصود لِـ "ساعة الحشرة"... فقالوا له ساخرين: أثمّة "ساعة حشرة" أكثر من هذه الساعة؟ وساعة الحشرة التي يمر بها لبنان اليوم يفترض أن يبادرها لبنان بما ملكت يداه، كالذهب مثلاً. فلبنان دولة مدينة لا مفلسة، وهو يستطيع أن يعيد تكوين أصوله، ويبدأ في إعادة ديونه تدريجاً للدائنين من بيع جزء كبير من سبائك الذهب المخزّنة والأراضي المتروكة. ولم لا؟
بيع بعض عقارات الدولة من الشركات العقارية الخاصة خير من تركها للنهابين من قادة أحزاب الأمر الواقع المتسلطة التي لا تكفّ عن السطو عليها؛ فتزوّر سنداتها وتحوّلها من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، وذلك كله بقوة "السلبطة" والفجور السياسي كما حصل مراراً في مناطق عدة من لبنان، ولا سيما في لبنان الجنوبي في ما عُرف بـِ "الاستيلاء على المشاعات وعلى أملاك المغتربين". وكي لا تُنهَب أملاك الدولة مجدّداً يمكن وضع الذهب والعقارات والمرافق في تصرّف "صندوق استثماري" مستقل عن أجهزة الدولة تديره هيئة من القضاة ورجال المال والأعمال والمحامين وخبراء في الاقتصاد والنقد والاستثمار، وغايته الوحيدة استثمار هذه الموارد بطرائق سليمة، لإعادة تكوين أصول الدولة وسداد ديونها. وإذا تبيّن حقاً وجود غاز وبترول بكميات تجارية في المياه اللبنانية، فإن في الإمكان إيفاء المودعين ما لهم في ذمة الدولة من حقوق، حتى لو جرى ذلك على المديين المتوسط أو البعيد. أما شطب ودائع المودعين وتصفير ديون الدولة على حساب حقوق الناس فدونه خرط القتاد.