الذكريات الذبّاحة

22 يونيو 2023

(سنجاي كومار براجاباتي)

+ الخط -

... وهذا نموذج آخر للذكريات عندما تتحوّل إلى سكّينةٍ تشحذ شفرتها الأيام، لتمضي في مهمتها بمهارة المحترفين، قبل أن تُغادر مسرح الجريمة المكتنز بالصور والحكايات وبراءة الأطفال في عينيها. فالذكريات القاتلة تعرف أن لها الكلمة الأخيرة في ترتيب الوجع البشري. ولهذا تؤدّي مهمتها مأخوذة بالثقة المطلقة التي يوليها إياها البشر كلما مضت بهم السنوات نحو الغروب.
"عقب عبد االله ما راح أنا تيتّمت. ذبحتني الذكريات ... حيل ذبحتني". تهدّج صوت المذيعة المخضرمة دولت شوقي، وهي تتحدّث في مقابلة تلفزيونية أجريت معها بعد أشهر من رحيل زوجها، عندما وصلت إلى هذه العبارة التي تبرّر فيها سبب قرارها بالسفر النهائي من الكويت، بعدما قضت فيها ما يقرب من خمسين عاما من عمرها، إلى بلدها الأول مصر، والتي تركتها وهي في الثانية والعشرين من عمرها. 
أعادتني تلك المقابلة المليئة بالشجن والدموع إلى ذكرياتي مع الشاشة الصغيرة، عندما كنت طفلةً أتسمّر أمامها بعد أن أنتهي من واجباتي المدرسية، وأنا في المرحلة الابتدائية، انتظارا لإطلالة مذيعات التلفزيون الجميلات الأنيقات بملابس تلاحق الموضة في الأزياء وتسريحات الشعر؛ دولت شوقي، أمينة الشراح، راجية وصفي، هدى المهتدي، ليلى شقير، هيا الغصين، وغيرهن ممن لم تسعفني الذاكرة الآن بتذكّر أسمائهن، وإن بقيت في مخيّلتي وجوههن الجميلة وأصواتهن الرائقة باللغة العربية. 
لا أدري إن كنتُ سأتذكّر كل تلك الوجوه قبل أن يفاجئني وجه دولت شوقي الجميل، رغم ما جلّله من حزن بيّن، أم لا، لكنني تأكدت الآن أن الذكريات لا تموتُ أبدا، وإن توهّمنا ذلك عندما تختفي من جدول يومياتنا ومحيط اهتماماتنا. 
ورغم أن كل تلك الوجوه الجميلة قد اختفت من الشاشة الصغيرة منذ سنواتٍ طويلة، إلا أن إطلالة دولت شوقي الأخيرة أعادتني، وأكاد أجزم أنها أعادت كثيرين مثلي، إلى ذلك الزمن البعيد، فهي عندما تتحدّث عن الذكريات التي ذبحتها، كما قالت، بعد وفاة زوجها رحمه الله، وتركها وحيدةً في بيتٍ تحتوي جدرانه ذكرياتها الكثيرة معه، فإنها تتحدّث عن ذكرياتنا، نحن أيضا معها، ومع غيرها من تلك الوجوه التي كانت تطلّ علينا عبر الشاشة الصغيرة، والتي لا نعرف غيرها آنذاك، لنطلّ من خلالها على العالم كله. 
والذكريات ذبّاحة فعلا، ذكريات دولت مع زوجها، وذكرياتنا معها، ووذكريات الجميع مع ماضيه، مهما كان هذا الماضي. ذلك أنها سجل أمين للحياة في كل تقلباتها، التي سرعان ما تنحتها الأيام فتزيل كل نتوءاتها الصعبة والحادّة لتبقى في الوجدان متساوية في الأثر والتأثير علينا. ومع هذا، ما زالت مؤلمة، حتى بعد أن نغادرها منتصرين غالبا، ما دمنا على قيد الحياة، فالذكريات عادة لا تخصّنا وحدَنا، حتى وإن عشناها منفردين ومستقلين، فكثيرون حولنا يعاونوننا بصناعتها برغبة منهم أحيانا ومن دون رغبة أحيانا أخرى، بل إنهم ربما لا يعرفون حجم ما يكوّنونه من تلك الذكريات الخاصة بنا، فلهم أيضا ذكرياتهم التي تشغلهم عنا وعن غيرنا. 
أما ما يجعلنا نتوق لاسترجاع تلك الذكريات عبر كل شيء يمكننا من ذلك كالصور الفوتوغرافية والأغنيات والحكايات والكلمات، رغم يقيننا بما تفعله بنا، وبحجم الجروح التي تتركها في وجداننا كلما قرّرت أن تغزونا، فلأننا نستعذب وجعا مجلّلا بفرح قديم، ونستلذّ بألم مكتنز بمتعة لا تنسى.
عندما انتهت دولت شوقي من حديثها المبلّل بالدموع والمسيّج بالشجن، كنتُ قد استحضرت كل ذكرياتي في زمنها وما تلاه من أزمان، لعلّي أحتمي بدموعها التي لم أعد متأكّدة أنها دموعها هي، وليست دموعي أنا أيضا، ودموع كثيرين عاشوا تلك المرحلة وذلك الزمن، من قسوة ما يذهب من تاريخنا ولا يعود إلا بهيئة ذكرياتٍ تبدو محايدة لأول وهلة .. رغم أنها في حقيقتها ذكريات ذبّاحة فعلا.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.