الذكاء الاصطناعي على خطى ثرثرة الجارات
لديكَ سيّارة سريعة، لكن، هل هي سريعة بما يكفي لتستطيع الطّيران بها؟ تقول الفنّانة الأميركية ذات الأصل الأفريقي تريسي شامبان في أغنية لها أدّتها في عيد ميلاد نيلسون مانديلا في عام 1988. على الإيقاع نفسه: لديكَ ميول ثوريّة، لكن هل أنت ثوري بما يكفي لتُفيد البسطاء من الناس، بينما ملياراتك تحجب الرّؤية؟
أن تكون مليارديراً ويسارياً فكرةٌ مجنونة. لكن، هناك من هو مجنون بما يكفي لأن يحاول تطبيقها، ولو من باب الزعم. وما من ثريّ مجنون أكثر من إيلون ماسك، الشخصية الجدلية، ورمز "اليسار المليارديري" مع مساندته لاشتراكية خفيفة للتكنولوجيا، في زمن الرأسمالية. أو أن تكون ثريّاً إلى درجة أنك تشعُر بالملل، وتحاول مقاسمة العالم بعض فتاتك، ولو من أجل إغاظة خصومك. فيما يُمثّل مارك زوكربيرغ رمز الرأسمالي المُستجد، الذي يتصرّف شخصاً متمرّساً في الاستغلال والإثراء السريع، على حساب مليارات من "الضحايا"، الذين يضخّون تفاصيل حياتهم في صناديقه الخضراء والزرقاء. بالتفسير الإيديولوجي، هو "إقطاعي" كبير في سهول التكنولوجيا، بصمته الأرستقراطية، وشجع شركته، التي باعت البشرية إلى الشركات الضخمة لتلعب النّرد بها.
في هذه اللعبة "الطبقية"، القديمة الجديدة، أعلن إيلون ماسك أنّه يُخطّط لبناء حاسوب عملاق تحت اسم "مصنع غيغا" لدعم شركته في مجال الذكاء الاصطناعي، ومواجهة "شات جي بي تي" (ChatGPT). طبعاً، يقول إنّه يسعى إلى ديمقراطية التكنولوجيا، بعدما رفع دعوى قضائية ضدّ شركته السابقة "أوبن إيه آي"، صاحبة "شات جي بي تي"، مُتّهماً إياها بانتهاك مهمّتها الأصلية غير الربحية، المُتمثّلة في إتاحة أبحاث الذكاء الاصطناعي للجميع. لكن، هل يصير ذلك مقابل اعتناق نوع من الاشتراكية، التي نحتاج إلى البحث عن مدى صحّتها. فلنا مع إيلون ماسك مشكلة قد يراها بعضهم حلّاً. فمقابل اقتحام مارك لدردشاتنا، يريد أن ينشئ ذكاء اصطناعياً يدردش بدلاً منّا. سيتحدّث الذكاء الحكّاء بدلاً منّا، فنتمكن من التواصل مع الآلاف من الأشخاص، الذين يعبرون حياتنا، ولا نجد وقتاً لننشئ علاقات معهم من أيّ نوع. فرصُ عمل، صداقات، معارف، علاقات حُبّ، أو علاقات عابرة... ماذا سنفعل نحن حينها؟
سنقطف ثمار التواصل. فنحصل على الوظيفة الأفضل، بعدما قام الذكاء بالبحث وإجراء المقابلات واختيار فرص العمل. سنخرج مع أصدقاء تجمعنا بهم خيوط كثيرة اكتشفها هو، وعمّق علاقتنا بهم. لكن ماذا سنفعل حين نلتقي ونحن لم نخض حديثاً واحداً حقيقياً؟... سنتصرّف أصدقاءَ بينهم تاريخ طويل. ولكن، ليس من الضروري أن نذكره في لقاءاتنا. فبنسبِ استعمالنا للأجهزة، ستُمحى ذاكرتنا بالفعل، بأحداثها وشخوصها. لذا، مهما تشاركت شخصياتنا الاصطناعية حوارات، فليس علينا حرج، بما أنّنا بلا ذاكرة. ويمكن لنا أن نتشارك النميمة، عبر الذكاء البديل، مثل جارات على السطوح، بلا تأنيب. أمّا قصص الحبّ، فبعد تجريب كلّ الاحتمالات، سيقدّم لنا اقتراحات جديرة بالتجربة. لعلّها نقلة هائلة، لكن، أليس كلّ ما نعيشه كذلك؟
مع هذه السيطرة للتواصل الاجتماعي في حياتنا، نتذكّر كيف كان الأمر مُريباً قبل عشر سنوات فقط، بعد زمن المنتديات الإلكترونية. كنت أدخل في منتصف الليل إلى موقع يقول لي أنت وشخص آخر يحمل اسماً عشوائياً، مثل "34256"، تتصفّحان الموقع. فلا أشعر بعدم الراحة بوجود مجهول. كأنّنا معاً نتجوّل في شارع مهجور، وجود شخص آخر فيه، قاده اللّيل إلى إحدى الأزقّة صدفة، يبدّد وحشة العتمة ولا يقيّد حركتي، فبيننا حائط غير مرئي. ولمّا بدأنا نظهر بأسمائنا ووجوهنا على فيسبوك، كان الأمر مخيفاً في البداية، لكنّنا تطبّعنا وانكشفنا أكثر ممّا كنّا نتوقّع يوماً. الآن، معظمنا يجد صعوبة في التعامل مع "شات جي بي تي" لأنّه يهدّد أسئلتنا الوجودية بقدرته على تعويض جهدنا الفكري. ومع أفكار ماسك لتعويض علاقاتنا الاجتماعية، هل نحتاج حقّاً مزيداً من القطيعة مع الواقع؟ هل سنكتمل فيه بالغوص أعمق في الافتراض؟ أم أنّنا سنتوه أكثر؟
تقول تريسي شابمان، في أغنية أخرى: "أعطني سبباً واحداً للبقاء وسأعود حالاً". أعطونا سبباً واحداً لنسلّم الذكاء الاصطناعي مفتاح حياتنا الاجتماعية، عدا الإجابة عن 90% من الرسائل والمكالمات؟