الذاكرة السورية في زمن الخَرَف
ما يفعله "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" يجدر أن تقوم به دول، بالنظر إلى أهمية المنتوج وضخامته والجهد المبذول فيه والإمكانات البشرية والمادية المطلوبة لإنجازه والحاجة المعرفية والسياسية الملحّة لوجوده. ليس المقصود العمل الفكري الثقافي الأكاديمي البحثي المعروف عن المركز، من مؤتمرات وإنتاجات وإصدارات كتب ودوريات وأوراق بحثية وغيرها مما هو من اختصاص كل مركز أبحاث ودراسات حين يستحقّ لقبه. المقصود هو المشاريع الكبرى التي بدأت مع "المؤشّر العربي" (السنوي)، وهو أكبر استطلاع للرأي يُجرى في العالم العربي منذ 2011، ثم المعجم التاريخي للغة العربية (أنجزت المرحلة الأولى منه أواخر 2018) ثم موقع "القدس: القصة الكاملة" بالإنكليزية (2022)، ثم منصّة "ذاكرة فلسطين" (2023)، وصولاً إلى منصّة الذاكرة السورية التي وُلدت في فضاء الديجيتال أول من أمس الاثنين السادس من مايو/ أيار 2024، عدا عن مشاريع أخرى قيد البناء.
مَن حضر إطلاق "الذاكرة السورية" في مقرّ "المركز العربي" ومعهد الدوحة للدراسات العليا في العاصمة القطرية، ومن شاهد الفعالية عبر منصّات التواصل الاجتماعي أو قرأ الكتيّب التعريفي بالمشروع، ثم تسنّى له تصفّح الموقع الإلكتروني للمنصّة، لا بد أن يكون قد دُهش بحجم العمل الهادف إلى توثيق وأرشفة الأحداث التي مرّت على سورية منذ اندلاع الثورة (مارس/ آذار 2011): 900 ألف مقطع فيديو، 50 ألف وثيقة، 29 ألف حدث يومي، نبذات عن 10500 كيان عسكري ومدني و334 دورية سورية وُلدت خلال الحقبة المشغول عليها بحثياً (2011 حتى أيامنا هذه)، تعريفات بأكثر من ستة آلاف شخصية ظهرت بوصفها فاعلة في الأحداث، أكثر من 2500 ساعة من الشهادات والروايات الشفهية المسجلة، مئات الأعمال الفنية واللافتات والأهازيج والهتافات التي ألّفت مشهد الثورة السمعي والبصري، لتكون إضافة إلى غيرها من تصنيفات الأرشيف والشهادات والحدث اليومي، أكبر قاعدة بيانات تتعلق بالثورة السورية.
إطلاق "الذاكرة السورية" بهذا الكمّ الهائل من البيانات يأتي في زمن دفن الثورة مليون مرّة في اليوم ممّن يعتبر نفسه منتصراً على شعب، راقصاً فوق قبوره، ومن يعترف بخسارة كل شيء، لا لأنه ثار، بل لأن كل شيء عاكسه: الظروف التي نسمّيها حظاً، نقص الخبرات، التآمر، قلة الحلفاء وكثرة مصالحهم، الأخطاء القاتلة، وحشية العدو المدعوم من إمبراطوريات بوزن إيران وروسيا والصين ومليشيات بإمكانات جيوش كحزب الله والحشد الشعبي. لكن منصّة الذاكرة السورية ليست محاولة لإنقاذ أرشيف الثورة من النسيان، ذلك أن "لا شيء يضيع، ولا شيء يُولد من عدم، كل شيء يتحوّل" على قولة الكيميائي والفيلسوف والاقتصادي الفرنسي أنطوان لافوازييه. منصّة الذاكرة السورية بهذا المعنى وثيقة إلكترونية عملاقة برسم السوريين أولاً ومن خلفهم شعوب العالم الذين تؤكد لهم حرب أوكرانيا وصعود اليمين المتطرّف والإعجاب المتزايد بنماذج كارهة لقيمة الحرية والديمقراطية مثل روسيا، أن لا شعب "فوق رأسه خيمة" تقيه التسلّط والقمع والقتل والاحتلال والتعذيب والديكتاتورية وسلب حريته وأرضه.
الشعوب العربية معنيّةٌ بهذا الكنز الذي يقدّمه "المركز العربي"، للاتّعاظ وللتمسّك بقيمة الحرية والديمقراطية ولمحاربة زمن عربي تغلب عليه سمات الخَرَف. "الذاكرة السورية" محاولة لمنع نسيان أن فشل الثورة لم يكن حتمياً بل له أسباب موضوعية وذاتية يمكن تجاوزها بحكمةٍ وذكاء وإصرار، اليوم وغداً، وأن الإخفاق الكبير أوصلت إليه أيضاً أنانيات معارضين وقصر نظر ونرجسيات وتطرّف ديني وجهل سياسي وتدخلات أجنبية وحسابات شخصية وأخطاء جعلت مرتكبيها ينافسون حكّام دمشق وطهران وموسكو وبكين في حساب توزيع المسؤوليات عن الخسارة المزلزلة. منصّة الذاكرة السورية تضاعف الثقة بأن سورية قبل الثورة كانت مقبرة كبيرة يقطنها أحياء، وبعدها صارت أربع مزارع بلا دولةٍ واحدة، وأن الوطن السوري الديمقراطي العلماني الواحد، ودولة المواطنين الأحرار المتساوين، لن يولدا إلا بنجاح ثورة شعبية يتقدّمها سياسيون تجتمع فيهم أنبل صفات السياسة.