الذاكرة التراثية وتفكيك الاستبداد
من الطبيعي، إذا كانت مقالات سابقة للكاتب قد تعرّضت إلى الذاكرة التراثية، وتعلقها بالظاهرة الاستبدادية أصولاً وتكويناً، أن ترتبط تلك الذاكرة أيضا بعمليات التفكيك للاستبداد، ذلك أن تلك الظاهرة والتعرّف على بعض تجلياتها التراثية التي تشير إلى مقولاتٍ انتشرت هنا وهناك في بعض مصادر الفكر السياسي الإسلامي على امتداد خبرته في القديم والمعاصر؛ من مثل "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، و"ستون سنة في ظل سلطان جائر خير من ليلة بلا سلطان"، وكذلك القول "من اشتدّت وطأته وجبت طاعته"، تلك المقولات التي تحاول أن تربط تسويغ الاستبداد لاعتباراتٍ تتعلق بدرء الفتنة ووحدة الأمة، وكذا الأمر عند من يبرّرون أو يسوّغون استنادا إلى الفكرة الأساسية التي تتعلق بضرورة السلطة وحتميتها في المجال السياسي.
كل تلك المسوغات والتبريرات علينا أن نقف منها موقفا واضحا وأكيدا، يتعلق بضرورة تفكيك تلك المقولات التي استخدمت، بشكل أو بآخر، لتسوغ فهما خطيرا قد يمرّر الحالة الاستبدادية، ويروج أمورا تتعلق بالطاعة أو عدم الثورة والخروج، ويتحدّثون ليل نهار أن الثورة على الحالك الظالم ونظامه فتنة يحرّم معها الخروج على الحاكم، بينما لا يكترثون بخروج الحاكم على الأمة ظلما وجورا وعدوانا، فإذا أردنا أن نمارس تفكيكا حقيقيا للاستبداد، فإن علينا أن نتخذ مواقف واضحة جلية من تلك المقولات لدى العلماء والفقهاء الذين قالوا، بناء على ذلك، بإمامة المتغلب، والقبول بتلك الظاهرة التغلبية والاستبدادية. ومن هنا، أي دراسة حقيقية عن تفكيك الاستبداد تتخذ من تفكيك تلك المقولات الحاضنة للاستبداد مسارا إنما تشكّل لبنة غاية في الأهمية، ضمن تلك المحاولات المعرفية في عملية التفكيك. ولعل الدراسة التي قام عليها الكاتب الإسلامي، محمد العبد الكريم، في كتابه المهم "تفكيك الاستبداد: دراسة مقاصدية في فقه التحرّر من التغلب" (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013)، تصدّت لتلك الخبرات التي حاولت أن تسوّغ لنفسها من خلال مقولات فقهية وتراثية مسألة التغلب والملك الجبري، واستندت، في ذلك، إلى منهجٍ مكين، يتعلق بتفكيك تلك التأصيلات المنسوبة للشرع، والتي لا تستند إلى حقائق أساسية من أصول بنية تلك الشريعة، أو في سياق الفكرة الشورية القائمة على الرضا والاختيار؛ إن التغلب مثل حالة وساحة للتوظيفات الفقهية التي غالبا ما كانت تشير بحق إلى ما يمكن تسميتها في التعامل مع هذه الإشكالية "ورطة الفقهاء"؛ والتي تعبّر، في حقيقة الأمر، عن محاولة لإمضاء تصرفات المتغلب خوفا على وحدة الدولة، من أي شكل من الفتنة والفرقة اللتين تفتّان في عضد تلك النظم القائمة.
يجب تفكيك المقولات التي استخدمت، بشكل أو بآخر، لتسوّغ فهما خطيرا قد يمرّر الحالة الاستبدادية
وفي حقيقة الأمر، المنهج القويم يجب أن ينضبط بتلك المقولة الذهبية والمنهجية التي اعتمدها الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه "لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"، وهو ما يعني القراءة الدقيقة للتجربة السياسية والخبرة الإسلامية على قاعدة "أن الحكم الشوري قاعدة تأسيسية لا محيد عنها، ولا بديل لها". ومهما كانت المبرّرات في هذا المقام، فإن الانتصار إلى أن تنصيب السلطة والإمامة، باعتبارها عقد مراضاة واختيار؛ إنما يشكّل الجوهر الأساسي في النظر إلى مسألة السلطة، ويؤكّد، من جانب آخر، على أن ضرورة هذه السلطة لا يمكن أن نقايض بها على ضرورة الشرعية للنظام سواء في عملية تنصيبه، أو في سياساته التي تلتزم الأصول الشورية في هذا المقام. ولعل ما أشار إليه الكاتب حينما عالج في صدر كتابه "في فصله الأول" بنيان الاستبداد بكونه بنياناً تاريخياً عميقاً يضرب بجذوره في أعماق التجربة الإنسانية في السياسة والحكم، وتحوّله بذلك إلى عقيدة لدى أصحابه، وهو ما حدا به أن يؤكد أنه "قد تم التأصيل والتشريع والتكوين وتنظيم مشروع الاستبداد على نحوٍ يصعب الوصول إلى أبراجه الشائقة في البنيان والطراز، بل يصعب التصدّي له ما لم تتعاضد الجهود الفكرية والشرعية للتشهير به وتعريته، مهما كان الثمن الذي سيدفع".
مؤكّد بشكل لا لبس فيه أن مزاعم المستبدّين في أنهم يحكمون باسم الدين باطلة، لأن الإسلام، كدين وشريعة، جاء ليهدم دولة الظلم والاستبداد
وينتقد في هذا الإطار ما اصطلح عليهم "شيوخ السلطة"، ومؤكّد بشكل لا لبس فيه أن مزاعم المستبدّين في أنهم يحكمون باسم الدين باطلة، لأن الإسلام، كدين وشريعة، جاء في الأصل ليهدم دولة الظلم والاستبداد، ويحرّر الشعوب من العبودية لغير الله، وهو في هذا المقام يفصل الشريعة عن مفهوم الاستبداد السياسي الذي صبغ تجربة الحكم بدولة الخلافة في مرحلة ما بعد فترة الخلافة الراشدة، وأن أي توظيفٍ من الحاكم المستبد للأداة الدينية في محاولته لتبرير أو تكريس استبداده أو تغلّبه، أو تسييس النصوص في فهم قاصر لمفهوم طاعة ولي الأمر ونصوص الإمارة والطاعة والصبر في القرآن والسنة، ومحاولة التأصيل لفكر طاعة المتغلّب، وتوظيف الإجماع فيما يخصّ شرعيته واستثمار ذلك كله في بقاء المستبد الجائر، لهو أمرٌ من الواجب في ما يتعلق بتفكيك الاستبداد في تلك الذاكرة التراثية، بما يعني ضرورة مناقشة تفكيك بعض تلك المصطلحات الشرعية، وإعادة تركيبها بالشكل الذي يخدم الهدف السابق من مثل أفكار كـ "البيعة"، و"أهل الحل والعقد" و"الشورى" و"الفتنة" و"الخروج". ومن ثم، فإن وضع تلك المفاهيم في نصابها، ونفي الفهوم الخاطئة عنها لهو أمرٌ من الأهمية بمكان، وغير ذلك هو مما يخالف عقيدة التوحيد وكليات الإسلام، وإن أي محاولةٍ لاستغلال حكام مستبدّين لأصول الدين وقواعده تتنافى أصلاً مع أصول الإسلام النقية التي جاءت بها الشريعة، فما جاء التوحيد في الإسلام إلا ليخلّص الناس من ظلم الحكام والملوك الجائرين واستبدادهم، ويحرّر الإنسانية من العبودية لغير الله تعالى من المخلوقات التي خلقها. ولعل تلك الرسالة الأساسية التي جاء بها الإسلام .. "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، أن من هذا الشعار الأساسي؛ عَلَم كل مستبد وظالم يستخدم سلطانه، أنه لو قالها لفقد كل امتيازاته، وكان ذلك تأكيدا لدعوة ماضية تصدع في وجه كل مستبد في هذا الزمان وبعد ذلك الزمان؛ لأن تلك الشريعة لم تأت في الأصل إلا لهدم دولة الظلم والاستبداد والفساد.
وعلى الرغم من أن بعض عباراتٍ أطلقها الكاتب قد احتدّت في بعض المقامات، وعمّمت في عدد من المواضع، وإن فكرة الكاتب محمد العبد الكريم الأساسية مواجهة الاستبداد ورفع الظلم والقيام على تفكيك هذه الكلمات التي تحوّلت إلى شعاراتٍ يستغلّها بعضهم في محاولة لتمرير حركة الاستبداد والتغلب وتبريرها، فإن من المهم التأكيد أن هذه الرؤية النقدية ضمن الميزان المقاصدي في الشريعة أمر من الواجبات، والتي أكد عليها ابن خلدون في فصله الشهير في مقدمته "أن الظلم مؤذنٌ بخراب العمران"، لأن الظلم، في البداية والنهاية، هو محاولة من المستبد والمستبدّين حتى لو استندوا استنادا زائفا لبعض مقولات الدين في هدم تلك المقاصد العامة للشريعة من حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وأن ممارسة ذلك في مجال تفكيك البنية الفكرية الاستبدادية ومراجعة ممارسات التغلب التاريخية لهي من الأمور المهمة ضمن تلك العملية الكبرى لتفكيك الاستبداد.