الديمقراطية ضد اللوبي... تأييد فلسطين أو إسرائيل
العلاقة بين الديمقراطية واللوبيات، أو جماعات الضغط، لطالما كانت إشكالية وغالباً تنافرية. ليست الديمقراطية حصراً قصة أكثرية تحكم وأقلية تعارض، ولا اللوبيات فقط أقلية تضغط بكل السبل (السلمية) لكي تصبح مصالحها وخياراتها سياساتٍ عامة تتبنّاها حكومات وتفرضها على الجميع، ولكن في هذا الاختزال شيء من الحقيقة، ومن هنا تولد أولى بذور التناقض الذي يمكن العثور على أمثلة كثيرة عنه. المثال الفاقع في هذه الأيام يتجلى في حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين، انقساماً بين أكثرية على الصعيد العالمي متضامنة مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وأقلية نافذة للغاية ومنحازة بتفاوت إلى الرواية الإسرائيلية عن الحرب الحالية، وللصراع الفلسطيني العربي ــ الإسرائيلي عامة. لا إحصاء عالمياً يرصد موقف المليارات الثمانية المقيمين على هذه البسيطة من الصراع، ولكن ليس كل أمر في حاجة إلى استطلاع رأي مهني وإحصاء دقيق ورياضيات وتقنيات معقدة، ذلك أن العلوم الاجتماعية توفّر أدوات مراقبة كافية لملاحظة أن الأكثرية تقف هنا والأقلية هناك ربما بسبب نقص معلومات وقلة متابعة وتأثر عميق بما تنجح في تقديمه لوبيات شديدة النفوذ، في الإعلام والسوشال ميديا وعوالم الاقتصاد والثقافة والفنون والسياسة. احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية التي بدأت في 18 إبريل/ نيسان الماضي مطالبين بفك اتفاقيات شراكات وتعاون كلياتهم مع نظيراتها الإسرائيلية، توفّر حالة أولى للدراسة في هذا السياق. في مقابل آلاف الطلاب المؤيدين للفلسطينيين، يظهر عشرات أو مئات المتحمسين لإسرائيل. ولو خرجت الكاميرا من حرم الجامعات، لوجدت تظاهرات حاشدة للغاية في مدن غربية، وصل المشاركون في إحداها إلى حوالي مليون في لندن، نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ضغطاً في سبيل وقف الحرب على الفلسطينيين في غزّة، بينما يحشد اللوبي الصهيوني ألفاً أو الفين من أنصار "الاستثناء الإسرائيلي"، وهذه حالة ثانية للدراسة. أوساط الفنانين والمثقفين المتضامنين تقدم عيّنة ثالثة توضح خريطة انقسامٍ على صعيد عالمي لمَن مع مَن ومَن ضد مَن. أما والحال كذلك، أي إن غالبية الشعوب ونخبهم في البلدان الديمقراطية "معنا"، فلماذا تكون حكومات الدول الديمقراطية القوية بمعظمها "ضدّنا"؟ أسباب عديدة يمكن ذكرها، من بينها أن أقوى اللوبيات الاقتصادية والدينية والمهنية والسياسية في أميركا وأوروبا وبقية أرجاء المعمورة، تؤيد إسرائيل وتضغط على السلطات في بلدانها لكي تضمن موقفاً يجعل من تضامن مواطنيها مع الحقّ الفلسطيني مجرّد قنبلة صوتية أو ألعابٍ نارية تعجز عن إسقاط صواريخ وقذائق ومقاتلات كتلك التي تدكّ الفلسطينيين المحاصرين.
ليس الإسرائيليون ومؤيدو الصهيونية عموماً أصحاب قدراتٍ مطلقة وشمشونية مثلما يحبّون أن يصوّروا أنفسهم وكما ينزلق بعض خصومهم في تخيّلهم، لكنهم بالفعل شديدو النفوذ وأصحاب خبرة عتيقة في صناعة اللوبيات وتسييرها والحفاظ على مكانتها وتوسيعها. حالة "لجنة الشؤون العامة الأميركية ــ الإسرائيلية" (آيباك) مثال فاقع تصطف خلفه عشرات أو مئات الجماعات المشابهة التي قد يوحي اسمها بأسمى القيم الإنسانية، لتكون في العمق مجرد تجمع لأشرس أشاوس المدافعين عن دولة دموية وعدوانية بوزن إسرائيل. في المقلب الآخر، ضعف اللوبي العربي في أميركا مثال عكسي، وقد سمح ذلك الضعف لجو بايدن أن يتجاهل الأميركيين العرب والمسلمين في دعمه المطلق للعدوان على غزة في سنة انتخابات ستحدد بضعة آلاف الأصوات الفارق في نتيجتها.
غالباً ما تعمّق اللوبيات أزمات الديمقراطية. أما وأننا نعيش على هذا الكوكب، فإنّ التمسّك بالديمقراطية كأفضل سبل تنظيم الاجتماع البشري لم يعد يكفي من دون تحصينه بصناعة لوبي يكون ديمقراطياً وأخلاقياً وإنسانياً في آن.