الديمقراطية الإسرائيلية وسيلة اغتصاب

20 مايو 2021
+ الخط -

لا نحتاج للتأمل في ما يحدث في حي الشيخ جرّاح في القدس اليوم لملاحظة مدى قدرة إسرائيل على امتهان فكرة الديمقراطية، كما سبق للحركة الصهيونية أن توسّلت فكرة الاشتراكية وامتهنتها في بداية تأسيس المشروع الإسرائيلي. أي مقطع من تاريخ القضية الفلسطينية يكشف كيف يمكن أن تكون الديمقراطية وسيلةً في يد المغتصبين لسلب حقوق الآخرين.

يتغلف تهجير الفلسطينيين في الحي المقدسي هذه المرّة بطابع قانوني، وسندات ملكية، وسندات مضادّة، ويعرض على المحاكم الإسرائيلية لتقول كلمتها في الأمر، المحاكم التي تستند إلى قوانين غايتها مصادرة الأرض، مثل قانون أملاك الغائبين لعام 1950، الذي ينقل أملاك الفلسطينيين في إسرائيل 1948 إلى حوزة الدولة، ليس دولة فلسطين بالطبع، بل دولة من احتل فلسطين وهجّر أهلها.

أسّست 28 عائلة فلسطينية، في 1956، سبق أن هجّرت من مناطق احتلتها إسرائيل في 1948، سكناً لها في حي الجراح في القدس الشرقية، باتفاق بين الأردن الذي كان صاحب الولاية على القدس الشرقية (1951-1967)، وبين وكالة غوث اللاجئين (أونروا). في 1967 وجدت هذه العائلات نفسها تحت الاحتلال الإسرائيلي، واليوم تجد بيوتها مهدّدة بأن تصبح مشاعاً للمستوطنين. واقع مرير يعكسه حوارٌ بات شهيراً بين امرأة فلسطينية ومستوطن إسرائيلي يبرر استيلاءه على بيت عائلتها بأنها سوف ترحل ولن تعود، وأن بيتها سيصبح ملكاً لغيرها، إن لم يكن له فلمستوطن آخر. المحسوم إذن هو تجريد العائلة من ملكيتها التي سيتنافس المستوطنون على حيازتها. هناك دولة معزّزة بقوة هائلة وبدعم دولي، تعمل على قطف ملكيات "الآخرين"، بكل السبل الممكنة، وتترك لرعاياها جمع القطاف.

التناقض المتأصل في تكوين الدولة الإسرائيلية وتاريخ نشوئها هو بين الاغتصاب والديمقراطية. حاجة إسرائيل للديمقراطية لا تنبع فقط من حرصها على مظهر الانتماء إلى الحضارة الديمقراطية الغربية السائدة اليوم، لتبدو واحةً مضاءةً وسط بقعةٍ يسودها الاستبداد والتخلف، بل أيضاً من قدرة الآليات الديمقراطية على استيعاب التباينات الواسعة بين اليهود الذين يشكلون شعب إسرائيل. غير أن هذه الديمقراطية "اليهودية" هي في الواقع أداة اغتصاب أرض وتجريد شعب آخر من حقوقه.

تعمل إسرائيل على تنفيذ خيار التهجير، لأن خيار (الإبادة) لم يعد متاحاً في الظروف العالمية المعاصرة

يخترق هذا التناقض تاريخ الديمقراطيات، سواء في حقبة الاستعمار المباشر، أو بعدها. الديمقراطية بوصفها آليات حكم ومبادئ عدل وقيم إنسانية، هي للداخل فقط، فيما تغتصب هذه الديمقراطية "الداخلية" حقوق شعوب في الخارج. الاختلاف الإسرائيلي هو في أن خارجها جزء من داخلها، وأنها، بطبيعتها الاستيطانية التوسعية، تستدخل الخارج لتبتلعه، وهي لذلك لا تستطيع إلا أن تجمع ديمقراطيتها إلى نوعٍ من التمييز العنصري القائم على عنصرَي القومية والدين. هذا تناقضٌ متأصلٌ لا يمكن لإسرائيل تجاوزه إلا في أحد اتجاهين، أن تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني وبدولة فلسطينية لها حدود ثابتة، أي أن تؤسّس لحدّ حاسم وواضح بين داخلها وخارجها، أو أن تتخلّص من الشعب الفلسطيني بالقتل على طريقة السكان الأصليين في أميركا مثلاً، أو بالتهجير الواسع بحيث لا يشكل من يبقى منهم أساساً كافياً للمطالبة بدولة، أي أن يتخلص داخل إسرائيل "اليهودي" من خارجها "الفلسطيني".

لن تعترف إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني ما لم تُرغم على ذلك، ولا يبدو هذا الأمر قريباً. لذلك تعمل إسرائيل على تنفيذ خيار التهجير، ذلك أن الخيار الأول (الإبادة) لم يعد متاحاً في الظروف العالمية المعاصرة، فضلاً عن أن من شأن هذا الخيار أن ينسف البعد الديمقراطي الضروري لعمل الدولة اليهودية ولصورتها في العالم. على هذا، نجد عمليات الطرد غير المباشر عن طريق منع إعطاء تصاريح بناء للفلسطينيين وهدم البناء المخالف، وعمليات الطرد المباشرة عبر مصادرة الأراضي والبيوت، المصادرة التي تتخذ اليوم في "الشيخ جرّاح" شكلاً قانونياً، تفصل به المحاكم الإسرائيلية التي يقوم قانونها على المصادرة والتوسع، وهذا مسارٌ طويل النفس، ولكنه ثابت.

إذا كان استقرار النضال الفلسطيني على أرض دينية يجعله أقدر على الحشد والصمود، فإنه، من ناحية أخرى، يزعزع الأساس الحقوقي للنضال الوطني، ليبدو نضالاً ضد "اليهود" أكثر منه نضالاً ضد الاحتلال

على ضوء الاستبداد المزمن والمستحكم في البلدان العربية، ينعكس التناقض المذكور بين ديمقراطية الدولة الإسرائيلية وطبيعتها الاغتصابية والعدوانية، في الوعي العربي على شكل قلق حائر بين رفض (وإدانة) إسرائيل التي تسلب حقوق الشعب الفلسطيني والإعجاب بسلوك أجهزة الدولة الإسرائيلية، على قسوته، تجاه المناضلين الفلسطينيين، مقارنة بالسلوك المفترض لأي دولةٍ عربيةٍ تجاه من ينتفض في وجهها.

الفشل العالمي في إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي، والفشل العربي، ومن ضمنه فشل الفصائل الوطنية الفلسطينية، في فرض الحقوق العربية على العالم، قاد إلى تضعضع النضال الوطني الفلسطيني، واستقراره من ثم على قاع هوياتي ديني اتخذ شكل صعود حركات إسلامية (أهمها حماس والجهاد الإسلامي) إلى واجهة الصراع، مع تحوّل منظمة التحرير تالياً إلى "مفاوض" ثم إلى سلطة محلية تنسق مع الاحتلال.

ارتبط هذا التغير في المشهد الفلسطيني (صعود الحركات الإسلامية) بتغيرٍ حاسم آخر، هو انتقال مركز النضال الفلسطيني إلى الداخل، مع اندلاع الانتفاضة الأولى في الشهر الأخير من العام 1987. بعد أيام قليلة من اندلاع الانتفاضة أصدرت "حماس" بيانها الأول الذي يتحدث عن "اليهود" ويصف المعركة معهم بأنها "معركة عقيدة ووجود وحياة"، وأن "الإسلام هو الحل والبديل" عن "السلام الهزيل .. والمؤتمرات الدولية الفارغة والمصالحات الخائنة". كان قد شهد لبنان، قبل فلسطين، تغيراً مشابهاً حين حلت مقاومة إسلامية (حزب الله) محل جبهة المقاومة الوطنية (جمول).

لن تعترف إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني ما لم تُرغم على ذلك، ولا يبدو هذا الأمر قريباً

إذا كان استقرار النضال الفلسطيني على أرض دينية يجعله أقدر على الحشد والصمود، فإنه، من ناحية أخرى، يزعزع الأساس الحقوقي للنضال الوطني، ليبدو نضالاً ضد "اليهود" أكثر منه نضالاً ضد الاحتلال. أي نضال "عقيدي ووجودي" أكثر مما هو نضال وطني. يبدو لنا أن مثل هذا التغير يساعد الدولة الإسرائيلية على تخفيف التناقض المستعصي فيها بين ديمقراطيتها وطبيعتها العنصرية، لأنه يساعدها على الظهور في موقع الدفاع عن النفس كوجود بشري، وليس كدولة احتلال، الأمر الذي يمكن لمس أثره في تأكيد الغرب على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس.

يشكّل الجانب العقيدي عنصراً فاعلاً في المكون الوطني للنضال الفلسطيني، ولكن من الحيوي لهذا النضال ألا يتغلّب فيه الجانب العقيدي على الجانب الوطني، وإلا فإنه يغامر في أن يخسر مشروعتيه الوطنية السياسية، ليندرج في خانة حقوق الإنسان والجماعات.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.