الديمقراطية الإسرائيلية التي أنتجت وحشاً
من الصعب على كلّ من يتابع مفاوضات تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي يجريها بنيامين نتنياهو مع شركائه من أحزاب اليمين القومي الديني المتشدّد، ومع الأحزاب الحريدية المتزمتة، ألّا يشعر بالقلق إزاء التغير الجذري الذي طرأ على المشهد السياسي في إسرائيل، فقد رسمت نتائج الانتخابات البرلمانية، أخيراً، صورة أخرى لإسرائيل، يقول بعضهم إنّها كشفت عن وجهها الحقيقي العنصري الشوفيني المتطرّف والمتخلف، بينما يعتبر آخرون أنّ خسارة أحزاب اليمين العلماني وأحزاب الوسط الانتخابات في إسرائيل، والصعود الكبير لشخصيات سياسية إسرائيلية متطرّفة شوفينية عنصرية، كانت، حتى وقت قريب، منبوذة وعلى الهامش، هي نتيجة لا مفرّ منها لما عليه إسرائيل الآن: دولة احتلال تسيطر بالقوة منذ أكثر من 55 عاماً على أكثر من مليوني فلسطينيي في الضفة الغربية ممن يعيشون ضمن بلدات ومدن تفصل بينها مستوطناتٌ يهودية وحواجز إسرائيلية، ويعزلها عما حولها جدار الفصل العنصري، ما يحوّل هذه المدن والبلدات إلى أشبه بمعازل. أما قطاع غزة الذي انسحبت منه إسرائيل في 2005 عسكرياً، وفكّكت المستوطنات اليهودية التي أقامتها هناك، فهو يخضع منذ 2007 إلى حصارين، برّي وبحري، كاملين، ويعيش الغزيّون في منطقة تعتبر من الأكثر كثافة سكانية في العالم في ما يشبه السجن الكبير. كانت هذه صورة عن إسرائيل اليوم بوصفها دولة أبارتهايد تطبق نظام الفصل العنصري بين اليهود والعرب، وترفع لواء التفوّق اليهودي.
المجموعة التي ستحكم إسرائيل قريباً كانت تنتظر منذ وقت طويل هذه الفرصة، كي تعيد رسم صورة إسرائيل وفق عقيدتها، أي دولة يهودية قومية متشدّدة دينية تؤمن بالتفوق اليهودي. والهدف الأول لهذه المجموعة تعزيز مكانة جمهورها من المستوطنين ومن أنصار اليمين القومي الديني، من خلال الحصول على مراكز وزارية حسّاسة تخدم هذا الجمهور، وتحقق الوعود التي وعدوهم بها. لذا نرى اليوم الشراسة التي يطالب فيها زعيم حزب قوة يهودية إيتمار بن غفير، من أتباع الحاخام كهانا، بالحصول على صلاحياتٍ واسعة في وزارة الأمن الداخلي التي سيتغيّر اسمها إلى وزارة الأمن القومي، وعلى وزارة تطوير النقب والجليل، الأمر الذي سيصبّ في خدمة جمهور بن غفير الذي صوّت له.
سيشكل دخول المجموعة اليمينية الجديدة إلى الحكومة الإسرائيلية المقبلة اختباراً من نوع آخر لنتنياهو الذي يريد إرضاء هذه المجموعة وقاعدتها الانتخابية
المهمة الثانية لهذه المجموعة، والتي يلتقي معهم فيها نتنياهو، إضعاف سلطة المحاكم وكبح صلاحيات المحكمة العليا وإخضاعها لمشيئة الكنيست، من خلال إصدار تشريعاتٍ تخدمهم. يريد بعض أفراد هذه المجموعة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، مثل بتسلئيل سموتريتش الذي يريد إبطال قرار الانسحاب من قطاع غزة، ويريد السيطرة على الإدارة المدنية في الضفة الغربية التي هي عملياً سلطة الحكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية.
سيشكل دخول المجموعة اليمينية الجديدة إلى الحكومة الإسرائيلية المقبلة اختباراً من نوع آخر لنتنياهو الذي يريد إرضاء هذه المجموعة وقاعدتها الانتخابية، لكنه، من جهة أخرى، يعي حجم المخاطر التي قد تواجهها حكومته، إذا ترك لهذه المجموعة قيادة الوزارات التابعة لها وفق أجندتها السياسية، لأنّ معنى ذلك فتح باب التصعيد على مصراعيه، سواء في الضفة الغربية أو في القدس الشرقية أو حتى داخل إسرائيل نفسها.
الجموح الديني المسياني الذي يحرّك هذه المجموعة الجديدة التي ستدخل إلى الحكم سيحوّل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين من قومي إلى ديني، وسيجعل المواجهة المقبلة مع سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة صراع حياة أو موت وصراع بقاء، لأن ليس لدى الفلسطينيين ما يمكن أن يخسروه أكثر.
يطالب وزير الأمن القومي الجديد المسؤول عن عمل الشرطة والحرس الحدودي منذ الآن بالعودة إلى أسلوب اغتيالات القادة الفلسطينيين
الهدوء الهشّ في غزة هو بفضل التوصل إلى ترتيبات مالية وتقديمات وتسهيلات اقتصادية بين حركة حماس وحكومة بينت - لبيد، وحصر المواجهة العسكرية بين القوات الإسرائيلية والمقاتلين الفلسطينيين في شمال الضفة هو بفضل سياسة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وعمل أجهزة استخباراتها التي تحاول جهدها فصل بؤر التوتر عن بعضها بعضاً، والامتناع عن فرض العقوبات الجماعية، الأمر الذي حال دون امتداد موجة الهجمات إلى سائر مناطق الضفة الغربية، وتحوّلها إلى انتفاضة ثالثة.
يطالب وزير الأمن القومي الجديد المسؤول عن عمل الشرطة والحرس الحدودي منذ الآن بالعودة إلى أسلوب اغتيالات القادة الفلسطينيين وفرض العقوبات الجماعية على الفلسطينيين، والتشدّد في سجون الاعتقال وتطبيق عقوبة الإعدام.
في ظلّ هذه الأجواء المشحونة بالتطرّف الديني اليهودي والمزايدات والكراهية للآخر ستكون مهمة نتنياهو صعبة ومعقّدة، فإذا لم يفلح في لجم جنون التطرّف الديني القومي، فإنّ إسرائيل، مجتمعاً وجيشاً، هي من سيدفع الثمن الأكبر، وسنكون، على الأرجح، أمام فصل جديد من المقاومة الفلسطينية لمواجهة الخطر الذي يهدّد بإطاحة كلّ طموحاتهم وآمالهم.