الدولة العربية إلى أين؟
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلال الأسبوع الماضي، مؤتمره الثامن للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي خُصص للدولة العربية المعاصرة. وعلى الرغم من أن فعاليات المؤتمر جرت افتراضيا، بعد تعذّر تنظيمه في الدوحة بسبب الجائحة، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تحظى بمتابعة لافتة على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد افتتح المؤتمر المفكرُ العربي، عزمي بشارة، بمحاضرته ''الدولة والأمة ونظام الحكم: التداخل والتمايز''، أبرز فيها الحاجة إلى تنويع المقاربات النظرية بشأن قضايا الدولة وإشكالاتها. واعتبر أن أية محاولة نظرية جدّية في فهم الدولة تحتاج إلى تضافر كل المقاربات المنهجية، بالنظر إلى الطبيعة المركبة والمتغيرة للدولة، إذ لا ينبغي الاقتصار على مقاربةٍ نظريةٍ بعينها لفهم نشوء الدولة وبنيتها ووظيفتها وطبيعتها وعلاقتها بالاقتصاد والمجتمع والثقافة.
تباينت الأوراق التي قُدّمت في المؤتمر بين أوراقٍ تناولت الإشكالات النظرية التي ترتبط بمفهوم الدولة الحديثة، وأخرى تصدّت لمعالجة مسارات تشكُّل الدولة العربية وتطوّرها وتفكّكها في ضوء الارتجاج الذي أحدثته الثورات العربية في أكثر من بلد، بينما حاولت بعض الأوراق مقاربة إشكالية هذه الدولة باستدعاء طبيعتها الهجينة التي حالت دون تشكّل مجال سياسي عربي حديث. كما حظيت، أيضا، قضايا الهوية والشرعية باهتمامٍ لافتٍ من بعض المشاركين. وعلى الرغم من تباين الأوراق المقدّمة من حيث منطلقاتها ومضامينها وخلاصاتها، إلا أنها أجمعت على المأزق البنيوي الذي تواجهه الدولة العربية المعاصرة، خصوصا بعد أن كشفت وقائع الربيع العربي هشاشتها، وعجز النخب السياسية عن الانتقال بها من طورها التقليدي والسلطاني والعسكرتاري إلى طورٍ جديد، عنوانُه الأبرزُ تعاقدٌ اجتماعي جديد يفتح المجال أمام إعادة بنائها ضمن مقتضيات الديمقراطية والمواطنة وإعادة توزيع السلطة والثروة.
أماطت هذه الوقائعُ اللثام عن العلاقة المركّبة بين الدولة والسلطة، فقد احتكرت الأخيرة توظيف مؤسسات الدولة ووجهتها لخدمة مصالحها العائلية والطائفية والفئوية، واعتبرت معارضة سياساتها معارضةً لهذه الدولة وسيادتها. ولذلك لم يكن مستغربا أن يتهاوى كيان الدولة وتتفكّك بنياتها في بعض بلدان المنطقة بمجرّد سقوط النظام السياسي الحاكم. ولم تكن الثورة المضادّة، في أحد عناوينها الرئيسة، إلا انعكاسا لتخوّف النظام الرسمي العربي من أن يُفضي المد الثوري الذي اجتاح المنطقة في 2011 إلى إعادة بناء علاقة السلطة بالدولة التي يُفترض أن تكون أجهزتها في خدمة المجتمع من دون تمييزٍ بين مكوناته. ولذلك رأت هذه الثورةُ المضادة إسقاط الأنظمة القائمة مسًّا بالهوية والسيادة الوطنيتين.
وقد لا يكون مبالغةً القول إن المنطقة العربية تمثل أحد أكثر النماذج سوءا في العالم لهذه العلاقة المركّبة بين السلطة والدولة، خصوصا في وجود إعلامٍ فاسدٍ يتوسّل بالدين والتاريخ والتقاليد لتبرير سرديات الاستبداد العربي. ويزداد الوضع سوءا مع التغطية السياسية التي أصبحت تقدّمها المؤسسات الوسيطة للسلطة في تحكّمها بمؤسسات الدولة ومقدّراتها، الأمر الذي يعيد إنتاج أعطاب هذه الدولة، ويُعمّق الفجوة بينها وبين مصادر التحديث.
ويبقى التحكّم في مصادر تحديث هذه الدولة تحدّيا مصيريا بالنسبة للأنظمة الحاكمة، بحيث تعمل كل ما في وسعها للحدّ من فاعليتها وتوظيفها في تغذية التقليد وتدوير بنياته المجتمعية والثقافية. وبالتالي لا يكتسي التحديثُ أهميته، بالنسبة لهذه الأنظمة، إلا بتسخيره للحفاظ على الأوضاع القائمة. ولعل هذا ما يلخّص المأزق الإصلاحي لهذه الدولة التي بقدر ما تقدّم مؤشرات متواترةً بشأن تحديث بنياتها ووظائفها وآليات اشتغالها، يزداد منسوب التقليد المترسّب في مختلف مفاصلها، ما ينعكس على علاقتها بالمجتمع في مختلف تمظهراتها.
تبدو الدولة العربية، اليوم، في مفترق الطرق، بعد سقوط العقائد السياسية التي تغذّت عليها على مدار العقود السبعة الأخيرة، وتزداد شروخها على أكثر من صعيد، سيما فيما له صلة بالاندماج الوطني والاجتماعي، وبناء مقتضيات الشرعية السياسية. وليس تزايد الطلب على الديمقراطية والمواطنة والتنمية والعدالة الاجتماعية إلا تنويعا على مطلبٍ جوهري، يرتبط بإصلاحها تحرير مؤسّساتها ومقدراتها من سيطرة الأنظمة الحاكمة، وهو ما لا يتأتّى إلا بدمقرطتها.