الدخان ما زال معلقاً فوق المدينة
في روايته البديعة "أوان القطاف" (دار الهلال، القاهرة، 2002)، خصص الروائي، محمود الورداني، فصلاً لأحداث "انتفاضة الخبز" في مصر عام 1977. يسرد، على لسان الراوي، شهادة عن وقائع اقتحام الجماهير قسم السيدة زينب في القاهرة، حيث انضم للحشود التي تردّد هتافاتٍ بمطالب اقتصادية، وبعضها هتافاتٌ بذيئة تمسّ زوجة الرئيس.
"كانت الجموع تتراصّ أمام قسم الشرطة، حيث ازداد زئيرهم خلف رجل آخر، حملوه وهو يلوح بقبضتيه معا: "مش كفاية لبسنا الخيش .. جايين ياخدو رغيف العيش". رحت أهتف معهم، فقد كان هتافهم في الصميم، ولا يخافون أحدا حتى الرئيس والمخابرات. أما قسم شرطة السيدة زينب الذي توقفوا أمامه فقد وصل صيته إلينا في المنيل. يا ويل من يقترب منه مجرّد اقتراب. حكى لنا زملاؤنا في المدرسة ما جرى لمعارفهم من جلد وضرب، بل وقتل، في قسم السيدة".
من العجيب أن يتكرّر المشهد نفسه بالضبط، في المكان نفسه، بعد أكثر من 30 عاما. على موقع "يوتيوب"، نشاهد مقطعاً لهجوم المتظاهرين على قسم السيدة زينب. يدعو شابٌّ يتحدّث، بلكنة شعبية وبملابس تكشف عن طبقته بوضوح، عن مهاجمة القسم ثأراً لما يفعله. يرد عليه شاب يظهر بدوره تعليمه من لكنته أن ذلك يمثل خطراً عليه، فيردّ الأول "أنا كده كده ميت".
وفي صورة أوسع، شهدت أحداث 1977 حرق عدد ضخم من مقرّات الشرطة (الأقسام)، ومركباتها، ما انتهى عمليا بانهيار وزارة الداخلية وقوات الأمن المركزي، واضطر الرئيس أنور السادات لزج الجيش، والذي لم تقبل قياداته بالتعامل إلا بعد أن تراجع السادات عن قراراته الاقتصادية التي سبّبت الأزمة.
ومرة أخرى هذا ما حدث نفسه في 28 يناير/ كانون الثاني 2011. ولكن لأن حجم الانفجار كان أضخم، صمّم الجيش على رحيل حسني مبارك. وأيضاً بالعودة إلى الخلف شهدنا الأحداث نفسها في 1952، حيث اجتاحت مظاهرات غاضبة القاهرة التي احترق وسطها التجاري والترفيهي بالكامل. نزل الجيش بأمر الملك. بعد أشهر قليلة، نزل الجيش بدون أمره وكانت ثورة يوليو 1952. كما شهدناها أيضا في 1919. في ذلك الوقت، كان الجيش الذي تولى قمع الثورة التي اكتسحت الشرطة المصرية هو الجيش الإنجليزي، ولذلك تميزت أعمال العنف بها بقطع خطوط المواصلات الإنجليزية.
وفي كل مرة يتم توجيه الاتهام إلى أطراف مؤامراتٍ خفية. في الخمسينيات، قيل إن من أحرق القاهرة هم الإخوان المسلمون، أو إنجلترا، أو إسرائيل، أو الملك. وفي السبعينيات، أكد السادات أنها مؤامرة شيوعية استجاب لها "حرامية". وأخيرا، اعتمدت الدولة المصرية رواية مفادها بأن ثورة 25 يناير قد اكتملت بوصول صوت الشباب الطاهر إلى أهل السلطة، بينما كل ما حدث بعد ذلك هو نتاج "الإخوان" وحركة حماس وحزب الله، ومسلحين اقتحموا الحدود من سيناء، اتجهوا أولاً إلى السجون وفتحوها، ثم اتجهوا إلى الميادين، وقتلوا المتظاهرين، وهاجموا الأقسام.
تشترك روايات السلطة في نفي وجود الشعب. ليس من المقبول بالنسبة لهم الاعتراف بقوة قطراتٍ شكلت طوفانا.
في ذكراه العاشرة، ما زال ذلك اليوم حيا في ذاكرة من شهدوه، بل إنه حيٌّ في ذاكرة السلطة أكثر من حياته في ذاكرة من شهدوه بصف التظاهر. لكن لا داعي للأفكار "الرومانسية". يخبرنا التاريخ أن معدّل تكرار أحداث شبيهة يستغرق نحو ثلاثين عاما، كأنه خزّان ضخم لطاقة غضبٍ ينفد بمجرد إطلاقه دفعته المدمّرة مرّة واحدة.
ومن ناحية أخرى، تخبرنا العلوم السياسية أن الثورات العنيفة لا تؤدّي إلى الديمقراطية غالبا، بل لاستبداد بديل. وقد شهدنا ما حدث في سورية وليبيا. صحيح أن ثورة يناير كانت في إطارها العام سلمية، إلا أنه لا ضمان أن يوم 28 آخر سينتهي النهاية نفسها. مخاطر تفكّك الدولة هي أحد الأمور التي لا تحلها الانتخابات النزيهة.
لا أحد يمكنه صناعة طوفان أو مقاومته. الأوْلى بالجميع أن يتجنّبه بالإصلاح الذاتي، وإلا فإن دخان الحرائق ما زال فوق الرؤوس.