الخيارات السياسية التركية بعد التفجير في إسطنبول

02 ديسمبر 2022

أتراك يضعون أزهاراً في موقع الانفجار في شارع الاستقلال في اسطنبول (14/11/2022/الأناضول)

+ الخط -

على الرغم من التوقيت الحرج للتفجير في إسطنبول (13/11/2022)، وتداعياته المحتملة على الانتخابات التركية الوشيكة، وتصاعد انتقادات أنقرة موقفيْ الولايات المتحدة وروسيا، ووجود فرصةٍ حقيقية أمام تركيا لتوظيف انشغال العالم بقضايا أخرى، فإن ثمّة قيودًا ربما تؤخّر، قليلًا، قرارًا تركيًّا بشنّ "عمليةٍ برّية واسعة" تشمل أجزاء من منطقة شرق الفرات، خصوصًا عين العرب (كوباني)، مع إمكانية بدء "عملية برّية محدودة أو متدرّجة"، تستهدف تل رفعت ومنبج، ريثما تؤتي الضغوط التركية على واشنطن وموسكو أكلها، ما قد يؤدّي إلى تأجيل "الاجتياح البرّي الموسع"، إذا أثمرت السياسة التركية في تحقيق أهدافها بإبعاد مسلّحي قوات سورية الديمقراطية (قسد)، عن الحدود لمسافة 30 كيلومترًا.

مكاسب تركية من الأزمة الأوكرانية

في إطار تقييم احتمال تغير/ استمرارية السياسة التركية بعد التفجير في إسطنبول، تجاه "المسألة السورية" خصوصًا، وتجاه إقليم الشرق الأوسط عمومًا، ثمّة أربعة عوامل تحدّد التحرّكات التركية في هذه المرحلة؛ أولها يتعلق بكيفية ترجمة أنقرة مكاسبها من الأزمة الأوكرانية، في توسيع مساحة حركتها الإقليمية، خصوصًا في شمال سورية، عبر فرض توازنات أنقرة الجديدة على كل من واشنطن وموسكو وطهران؛ إذ باتت معظم الأطراف تحتاج أنقرة وأدوارها في الوساطة ورعاية المفاوضات (سواء في اتفاقية الحبوب، أم تبادل الأسرى، أم استضافة الحوار الاستخباراتي بين الولايات المتحدة وروسيا)، وأصبح بمقدور الفاعل التركي أن يمارس الضغط على واشنطن والعواصم الأوروبية ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر قرار أنقرة المؤثّر في مسألة عضويتي السويد وفنلندا في الحلف.

كما صار بإمكان أنقرة المساومة بصورة أفضل مع موسكو، والضغط لتعديل صيغ التفاهم وتقاسم النفوذ بينهما، في الملف السوري؛ حيث تلعب روسيا دور الفاعل الدولي الأبرز هناك، منذ تدخّلها العسكري أواخر سبتمبر/ أيلول عام 2015؛ إذ تريد أنقرة إبعاد تهديدات حزب العمّال الكردستاني وامتداداته السورية عن الحدود مع تركيا، في مقابل موافقة تركيا على التقارب مع نظام بشار الأسد، وهي نتيجة تخشاها واشنطن، وتفضّل تفاهمًا بين "قسد" وتركيا، منعًا لاستفادة موسكو في تعزيز دورها في الشمال السوري، ما يمكن أن يضغط على الدور الأميركي مستقبلًا.

تناغم تركي إيراني ضد أكراد سورية والعراق

بسبب حجم النفوذ والوجود الإيرانييْن في سورية، وكون طهران دولةً ضامنة في مسار آستانا (إضافةً إلى روسيا وتركيا)، ليس بوسع أنقرة تجاهل الموقف الإيراني، على الرغم من أن تفجير إسطنبول زاد من قدرة تركيا في الضغط على إيران. كما أن المظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها إيران منذ مقتل الشابة الكردية مهسا أميني تُضعف موقف إيران إقليميًّا، نسبيًّا، بسبب تركيزها على قمع هذه الاحتجاجات والتصدّي لمزاعم الدعم الخارجي الذي تحظى به (من أميركا وإسرائيل والسعودية).

وفي حين استقوى الموقف الإيراني بموسكو على الموقف التركي، في القمّة الثلاثية بطهران (19/7/2022)، وبرز تأكيد مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي على "وحدة الأراضي السورية"، و"أولوية التفاوض لحل المشكلة السورية"، وأن "أي عملٍ عسكري هناك لا يصبّ في مصلحة أمن تركيا ولا سورية"، فإن تداعيات التفجير في إسطنبول وتوقيته الحرج أدّيا إلى تزويد تركيا بأوراق ضغط إضافية على واشنطن وموسكو وطهران.

ليس في وسع أنقرة تجاهل الموقف الإيراني، على الرغم من أن تفجير إسطنبول زاد من قدرة تركيا في الضغط على إيران

وإلى ذلك، تعزّز المنطق التركي لتسويغ عملية برية في شمال سورية أكثر بعد زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد (14/11/2022)، وتهديده بشنّ حملة عسكرية لضرب الجماعات الكردية الإيرانية المعارضة (المتمركزة في إقليم كردستان العراق)، ما لم تنزع حكومة محمد شياع السوداني سلاحها ويتم تفكيك تجمعاتها بالكامل.

وهذا يعني تحليليًّا أن أنقرة تحاول توظيف نتائج زيارة قاآني في تسويغ شنّ عملية تركية برّية محدودة؛ فإذا كان من حقّ إيران ضرب الجماعات الكردية في كردستان العراق، بدعوى تأثيرها على مظاهرات الداخل الإيراني، فلماذا يُحرَم على تركيا القيام بالشيء نفسه في سورية على الحدود التركية المباشرة، ما يكشف تناغمًا في توقيت التحرّكين التركي والإيراني ضد الجماعات الكردية في سورية والعراق، على نحو يُذكّر برفض طهران وأنقرة استفتاء كردستان العراق، وتصريحات خامنئي لدى استقباله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (أوائل أكتوبر/ تشرين الأول 2017) بأن هذا الاستفتاء "خيانة للمنطقة، وتهديد لمستقبلها؛ إذ لا يمكن الوثوق بأميركا والقوى الأجنبية، التي تعمل على إيجاد إسرائيل جديدة في المنطقة".

توظيف أنقرة حصاد التطبيع/ الانفتاح الإقليمي

يتعلق العامل الثالث، الذي يعزّز قدرة تركيا على شنّ "عملية برّية محدودة" في شمال سورية، بحصاد سياسة الانفتاح والتطبيع التركية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والإمارات والسعودية ومصر؛ إذ يبدو أن أنقرة ماضيةٌ في توطيد علاقاتها مع إسرائيل، كما يظهر من تعيين شاكر أوزكان تورونلار سفيرًا جديدًا لتركيا في إسرائيل، مقابل تعيين إيريت ليليان سفيرةً لإسرائيل لدى أنقرة. ثم استقبال الرئيس أردوغان وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس قبل الانتخابات الإسرائيلية أخيرا، واتصال زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو، بعد فوزه في الانتخابات وتكليفه بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، بالرئيس التركي لتعزيته بضحايا تفجير إسطنبول، وتهنئة أردوغان نتنياهو بفوزه الانتخابي، والتأكيد على "استمرارية العلاقات التركية الإسرائيلية على أرضية المصالح المتبادلة، وعلى أساس مراعاة كل طرف حساسيات الآخر".

على صعيد آخر، تتسارع خطوات التطبيع التركي المصري، ولا سيما بعد لقاء رئيسي البلدين، أردوغان وعبد الفتاح السيسي، في الدوحة على هامش افتتاح مونديال قطر 2022، (كما يظهر من تصريحات المسؤولين الأتراك عن إمكانية إعادة النظر في العلاقات بمصر وسورية، والسعي إلى مزيد من التطبيع مع مصر، وتوالي الاجتماعات الأمنية والاستخبارية بين البلدين). وعلى الرغم من ضعف مكانة مصر الإقليمية مقارنةً بتركيا وإسرائيل، تستمر محاولات القاهرة لتطمين اليونان وقبرص؛ إذ تجمع آلية تعاون بين هذه الدول الثلاث في المجالات العسكرية والسياسية وتنسيق المصالح في شرق المتوسط.

صار بإمكان أنقرة المساومة بصورة أفضل مع موسكو، والضغط لتعديل صيغ التفاهم وتقاسم النفوذ بينهما

بيد أن محدودية أدوات المساومة والضغط المصرية/ العربية، تُضعف تأثير أي اعتراضات عربية على السلوك التركي في سورية أو العراق أو ليبيا أو شرق المتوسط؛ إذ يُرجّح أن تنجح أنقرة في النهاية (عبر علاقاتها مع روسيا وإسرائيل خصوصًا)، في تفكيك كلّ التحالفات الإقليمية المضادّة لها، وإضعاف قيمة التعاون المصري/ السعودي/ الإماراتي مع اليونان بوصفه ورقة ضغط على أنقرة، وهو ما ينطبق أيضًا على "منتدى غاز المتوسط"، الذي تريد أنقرة الانضمام إليه، بُغية تحجيم مساحة الحركة أمام اليونان، ناهيك عن الطموح التركي في التحوّل إلى مركز إقليمي لعبور الطاقة إلى أوروبا، ولا سيما بعد تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن احتمال إعادة توجيه إمدادات غاز خط "نورد ستريم" إلى البحر الأسود، ما يعني تحويل تركيا إلى دولة ممرّ للغاز الروسي نحو أوروبا، وتحمّس الرئيس أردوغان للفكرة، واقتراحه منطقة "تراقيا"، شمال غرب تركيا، بوصفها المنطقة الأنسب للمشروع.

هل يعيق الداخل التركي "عملية برّية واسعة" في شمال سورية؟

يتعلّق العامل الرابع، وربما الأهم، في التأثير على السياسة التركية الإقليمية بالأبعاد/ البيئة الداخلية، والخشية من حصول تراجعات اقتصادية، ولا سيما في ظل موسم انتخابي ساخن ومعقّد، يُخشى فيه من التأثير على جيوب المواطنين، ومن ثم اتجاهاتهم التصويتية في الانتخابات المقبلة؛ فإزاء تعاظم التحديات الاقتصادية (ارتفاع معدلات التضخّم، وغلاء الأسعار، وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار الأميركي، وارتباك السياسات المالية التركية عمومًا، وتفاقم تداعيات الأزمة الأوكرانية دوليًّا وإقليميًّا)، لن يكون مناسبًا الانزلاق غير المدروس نحو "انخراط برّي واسع" في سورية، ولا سيما على ضوء محدودية نتائج العمليات التركية الأربع السابقة ("درع الفرات" أغسطس/ آب 2016، "غصن الزيتون" يناير/ كانون الثاني 2018، "نبع السلام" أكتوبر/ تشرين الأول 2019، "درع الربيع" مارس/ آذار 2020).

وصحيحٌ أن نهج السياسة التركية "الجديدة"، خصوصًا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، 15 يوليو/ تموز 2016، أصبح يميل نحو أجندةٍ قومية (تتمحور أساسًا حول الأمن القومي والمصالح القومية، كما يعكسه انخراط أنقرة في أزمات سورية وليبيا وحصار قطر وشرق المتوسط وأذربيجان)، فإن "الثقافة الاستراتيجية التركية"، ولا سيما لدى الكماليين والقوميين الأتراك، لا تزال تراعي، قدر الإمكان، الابتعاد عن "الانخراط الأمني/ العسكري" الواسع والمباشر، في شؤون إقليم الشرق الأوسط، ولا سيما في حال غياب التفاهمات مع القوى الدولية المؤثّرة في الإقليم، خصوصًا أميركا وروسيا، على نحوٍ يكبح إطلاق يد تركيا في استهداف حزب العمال الكردستاني وقوات سورية الديمقراطية (قسد)، ويحدّ من إمكانية فرض رؤية أنقرة في "مكافحة الإرهاب" على الفاعلين الدوليين؛ فالأرجح أن "مكافحة الإرهاب" ستبقى موضوعًا خلافيًّا بين السياسات الدولية والإقليمية، وفي حين تسعى كل الأطراف الدولية والإقليمية، بدون استثناء، لتوظيف هذا الملف، فإنه يصعب تصوّر نجاح أنقرة في القضاء على تهديدات حزب العمال الكردستاني وامتداداته المختلفة، بدون مقاربةٍ تصالحية، تجعل الأبعاد الأمنية والعسكرية جزءًا من مقاربة استراتيجية أشمل، ما يؤكد حاجة حزب العدالة والتنمية إلى العودة للبحث عن حلول لمعضلة الأكراد (كما فعل بين عامي 2005 - 2015)، حينما استخدم الحزب سياسته الإقليمية في الانفتاح على الأكراد العراقيين وتعزيزه الترابط الاقتصادي مع شمال العراق، كفرصة ووسيلة لدفع التطورات الداخلية، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية لجنوب شرق تركيا وتسوية "المسألة الكردية".

محدودية أدوات المساومة والضغط المصرية/ العربية، تُضعف تأثير أي اعتراضات عربية على السلوك التركي

وعلى الرغم من وجاهة هذا الطرح، فلا يزال بعضهم يعتقد أن البيئة الدولية مؤاتية لكي تفرض تركيا رؤيتها، عبر إطلاق "عملية برّية متدرّجة"، تعزّز قدرة أنقرة على تعديل مواقف موسكو وواشنطن، بما يخدم تحشيد الداخل التركي خلف حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، ودعم التحالف مع القوميين الأتراك الذين يؤيدون استخدام القوة لمواجهة تهديدات الأمن القومي والمصالح التركية.

وإجمالًا لما سبق، يبدو أن ذهاب تركيا نحو سيناريو "عملية برّية واسعة" تشمل أجزاء من منطقة شرق الفرات، ناهيك عن فكرة إنشاء "حزام أمني/ منطقة فاصلة"، على طول الحدود التركية السورية، ليس مضمونًا في نتائجه وارتداداته على الداخل التركي، سواء اقتصاديًّا أم أمنيًّا أم سياسيًّا، ولا سيما إذا تغلّب الطموح على القدرات والحسابات الدقيقة. كما أن هذه العملية ربما تكون لها تداعياتها على زيادة الخلافات/ التوترات في العلاقات التركية مع روسيا والولايات المتحدة، في "مرحلة انتقالية" يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، ما يجعلها حبلى بالمفاجآت والمتغيرات المتشابكة، التي قد تعرقّل الصعود الإقليمي التركي، أو بلوغ أنقرة طموحها في أن تصبح من أكبر عشرة اقتصادات في العالم، وتحقّق بالتالي "مكانةً عالمية مرموقة".

يبقى القول إن سلوك أنقرة وطهران بعد الأزمة الأوكرانية يطرح سؤالًا استراتيجيًّا مركّبًا، "فهل تسمح تداعيات (اللحظة الأوكرانية) وبروز الدوريْن التركي والإيراني، بتحوّلهما فاعليْن إقليمييْن مهيمنيْن يتفوقان في تأثيرهما على إقليم الشرق الأوسط، على كل من واشنطن وموسكو؟ وهل يمكن أن يصبّ ذلك في مصلحة العرب أم سيكون على حسابهم، وماذا عليهم القيام به حاليًا ومستقبلًا، لإدارة علاقاتهم مع الفاعليْن التركي والإيراني؟".

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل