الخشية المبكّرة من حرب عالمية ثالثة
يرتعد العالم بأسره، دولاً وشعوباً، وخصوصاً في أوروبا، من انزلاق الحرب في أوكرانيا إلى أتون حرب عالمية ثالثة. فمشاهد الدمار الهائل الذي ألحقته وتلحقه روسيا بأوكرانيا تذكّر بفظائع الحربين العالميتين، الأولى والثانية. يزداد الخوف مع السعي الصيني الحثيث لإقامة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب تتقاسمه الصين وروسيا الاتحادية مع الولايات المتحدة، يعيد إلى الأذهان، بما يشبه تكراراً للتاريخ، التداعيات التي أفضت إلى تينك الحربين، وما تلا ذلك من نظام عالمي جديد تزعمته الولايات المتحدة اقتصادياً، وتقاسمته سياسياً مع الاتحاد السوفييتي في فترة "الحرب الباردة". حقائق ومؤشّرات عديدة تتداعى لتؤجج هذا الرعب، فدول أوروبية عديدة بدأت تخرج عن حيادها الذي اتّخذته بعيد الحرب العالمية الثانية، لتعلن دعماً عسكرياً لأوكرانيا، كالسويد وفنلندا، فيما تبنّت سويسرا العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب غزوها أوكرانيا، علماً أن سويسرا ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، ويمر ثلث التحويلات المالية للمبادلات التجارية الروسية، بما يخص الطاقة والحبوب، عبر منصتها المصرفية العالمية. هذا مع وجود دول أخرى، كالنرويج، تشعر بالتهديد الروسي يقترب من حدودها، وهو، على أي حال، تهديد ضمني دائم لدول اسكندنافيا عموماً منذ الحرب الباردة. تُضاف إلى ذلك زيادة إنفاق هذه الدول على الدفاعات العسكرية.
لكن المفاجأة الكبرى من ألمانيا، إذ أعلن المستشار أولاف شولتز، قبل نحو أسبوعين، رفع ميزانية الإنفاق العسكري إلى حدود المائة مليار يورو، فضلاً عن تخصيص 2% من الناتج المحلي لتحديث الدفاعات العسكرية، وهو ما يتلاءم مع قرار حلف شمال الأطلسي (الناتو) برفع مساهمة أعضائه في الإنفاق العسكري. وهي خطوة غير مسبوقة، بعد تقييد قدرات ألمانيا العسكرية (هي واليابان إلى درجات دنيا) إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن هذا الإعلان لم يُثر حفيظة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من خطر "ألمانيا جديدة قوية تتشكل"، رغم هذه الميزانية الدفاعية الضخمة، بل بالعكس، أبدت فرنسا خصوصاً، والاتحاد الأوروبي عموماً، الارتياح تجاه هذه الخطوة الألمانية، بعد التراخي المزمن الذي اتبعته المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، مع روسيا الاتحادية لحاجتها الشديدة للغاز والنفط الروسي. وقد دعم شولتز هذا الارتياح بإعلانٍ آخر عن توجه بلاده إلى الاستغناء عن الغاز والنفط الذي تستورده من روسيا، عبر دعم عاجل ومكثف لبرامج إنتاج الطاقة النظيفة، بل وتنويع مصادرها من النفط والغاز، كي تتمكّن من خفض استيرادها من روسيا، إذ تعتبر ألمانيا المستورد الأكبر لهاتين المادتين من روسيا. وبالفعل، تحدثت ألمانيا مع كل من قطر والإمارات للحصول على النفط والغاز المسال لتطبيق هذه السياسة، كي لا تظل تحت رحمة روسيا في هذا الشأن، وهو ما تسعى إليه كل الدول الأوروبية أيضاً.
كان من أهم نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا "أوروبا موحّدة"، إذ عزّز الغزو الروسيّ أواصر العلاقة بين أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين تجاه الغزو، بعد أعوام من الانقسامات الأوروبية. دفع الغزو الروسي أيضاً "الفناء الخلفيّ" الذي يشكّله كلٌّ من السويد وفنلندا، إلى الانتقال من سياسة عدم الانحياز التي تطبّقانها منذ عام 1949 إلى حقبة جديدة، عبر إرسال شحناتٍ من الأسلحة إلى الجيش الأوكراني، كما تنامي الحديث في كلتا الدولتين عن إمكانية طلب الانضمام إلى الحلف. وأعاد التهديد المتعاظم الذي مثّله الغزو الحياة للحلف، بعد سنواتٍ من الشلَل والعجز، ليس بين أعضائه الأوروبيين فحسب، بل مع الحليف الأميركي الرئيسي، بعد أن زعزعته سياسات الرئيس الأميركي السابق ترامب.
لم تستقر التحالفات الدولية بعد، وما زالت تتأرجح، ما يؤشّر على غياب البيئة الدولية لخوض حرب عالمية ثالثة
عدم إدانة الصين الغزو الروسي لأوكرانيا، في امتناعها عن التصويت لقرار الإدانة في مجلس الأمن، أو حتى استخدام حق النقض (الفيتو) على القرار، لا يعني أنها لا تدعم علناً وضمنياً روسيا في غزوها أوكرانيا، وإن بدا موقفها ضبابياً، فعلى خلفية افتتاح دورة الألعاب الشتوية في بكين التي زارها الرئيس الروسي بوتين مطلع عام (2022) بمناسبة الافتتاح، خاض فيها محادثات شاملة مع الرئيس الصيني شي جينغ بينغ. كان في خلفية الاجتماع تصاعد التوتر من إمكانية انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو. وُصف الموقف الصيني حينها بالمتذبذب والمتخاذل، فهو تارة يتفهم مخاوف موسكو الأمنية من سعي أوكرانيا للانضمام إلى الحلف، لكنه غير موافق بشكلٍ صريحٍ على الغزو. ويُعتقد أن هذا التذبذب يعود إلى مصالح الصين التجارية في أوروبا التي تخشى من خسارتها. إذ يبلغ حجم التبادل التجاري للصين مع القارّة الأوروبية 1200 مليار يورو، الشريك التجاري الأكبر للصين بعد الولايات المتحدة، بينما مع روسيا لا يتجاوز 60 مليار يورو. وأيضاً لا ترغب الصين في التورّط في حرب عالمية قد تهدّد الأسواق ومشروع الحزام والطريق الذي لم يكتمل بعد، وتحاول من خلاله مدّ نفوذها الاقتصادي عبر العالم، تمهيداً لسيطرتها السياسية في مسار تشكيل نظام عالمي جديد متعدّد القطبية، تكون فيه قطباً أساسياً في مواجهة الولايات المتحدة، لكن مع روسيا أضعف، فهذه قبل الغزو ليست ذاتها ما بعده، حتى لو انتصرت في أوكرانيا، ولما يسبّبه هذا التورّط من أزمات اقتصادية كارثية عليها، ليس فقط بسبب إنفاقها مبالغ طائلة في حربها هذه، بل أيضاً العقوبات الاقتصادية القاسية، والعزلة الدولية نتيجة هذه الحرب.
لذلك، ليست الصين في وارد شنّ حربٍ على جزيرة تايوان واحتلالها، لما له من أثرٍ بالغ فعلياً على إشعال حربٍ عالمية ليست مستعدّة لخوضها بعد، ولا لتحمُّل تبعات عقوبات اقتصادية، أقله ليس قبل أن يستقرّ نفوذها الاقتصادي، ويكتمل مشروعها "الحزام والطريق"، وخصوصاً أن العزلة الدولية التي تواجهها موسكو بسبب الغزو تتصاعد، وقدرتها على إقامة التحالفات الدولية القوية تتراجع، بما لا يؤهلها لتصعيد غزوها أوكرانيا إلى مستوى حربٍ عالمية ثالثة. أكثر ما يمكن أن يفعله بوتين، توجيه ضربة نووية تحسم الحرب، وتمنع تحوّلها إلى حرب استنزافٍ ستكون روسيا فيها خاسرة. تماماً كما حدث في غزو الاتحاد السوفييتي أفغانستان الذي يحاول بوتين إعادة إحيائه. أيضاً محاولة استعادة روسيا القيصرية التي أفل نجمها في أثناء حربها مع اليابان، وأدّت، في بدايات القرن العشرين، إلى هزيمتها أمام الثورة البلشفية بقيادة لينين عام 1917، قد يتكرّر التاريخ نفسه في روسيا الاتحادية اليوم، فهي ليست في قوة الاتحاد السوفييتي في حرب أفغانستان عام 1979. وأيضاً وضعها الداخلي هشّ، وسيزيد الإنفاق الهائل على الحرب من قوة المعارضة الروسية، خصوصاً مع الأضرار الهائلة التي ستلحق بالنخبة الاقتصادية، بسبب العقوبات الاقتصادية التي بدأت الولايات المتحدة بتنفيذها. علاقاتها بدول، ولا سيما في الشرق الأوسط، ضبابية أو غير مستقرّة، رغم تحسنها في الفترة الأخيرة، وخصوصاً بعد وضعها العصي في دواليب إحياء الاتفاق النووي، حين طالبت بأن يتضمّن الاتفاق ضمانات مكتوبة بعدم شمول العقوبات الاقتصادية الاتفاقات التجارية التي أبرمتها مع إيران. وبعد أن كادت اللقمة تصل إلى الفم الإيراني، ولم يبقَ على توقيع الاتفاق سوى لمسات طفيفة.
لا ترغب الصين في التورّط بحرب عالمية قد تهدّد الأسواق ومشروع الحزام والطريق الذي لم يكتمل بعد
من جهة ثانية، تبدو علاقات موسكو مع دول الخليج جيدة، رغم الحياد الحذر، أقله في الدعوة إلى وقف الحرب، وأيضاً في اقتصار صلاتها مع الجانب الآخر على المساعدات الإنسانية للأوكرانيين، واستضافتها لاجئين على أراضيها مع تسهيلات جيدة للإقامة. يفسر ذلك موقف خليجي منزعج من تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، وعدم تضمين الولايات المتحدة الاتفاق النووي المرتقب توقيعه ضماناتٍ مكتوبةٍ لوقف نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار المهددة لدول الخليج. نلحظ ذلك الانزعاج في رفض دول الخليج، وخصوصاً السعودية، زيادة إنتاجها للنفط والغاز المسال، حتى كتابة هذه السطور، لتعويض النقص منهما بسبب حرب أوكرانيا. وأيضاً في امتناع الإمارات عن التصويت مرّتين على قرار إدانة الغزو الروسي أوكرانيا، وهي العضو المنتخب حديثاً في مجلس الأمن، تجنباً للتورّط في المشاركة بأي قرارات محتملة لمجلس الأمن ذات مفاعيل مُلزمة، قد تذهب إلى اللجوء إلى الفصل السابع ضد روسيا. ويظهر أيضاً مع رفض كل من وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، ووليّ عهد أبوظبي، محمد بن سلمان، الرد على مكالمتين للرئيس بايدن قبل أكثر من أسبوعين، لتقصيره في احترام مخاوفهما الأمنية، خصوصاً بعد تعرّض أبوظبي لهجمات حوثية، واستمرار الاعتداءات الصاروخية على المملكة. وقد أدّى إلى سعي دول الخليج لتنويع تحالفاتها الدولية (روسيا والصين) والإقليمية (تركيا وإسرائيل مثلان)، وإقامة توازن حذر مع حليفها الأميركي بعد تراجع اهتمامه بالشرق الأوسط، الذي بدأت تظهر آثاره السلبية على أمن الخليج أكثر فأكثر، فيما الدول العربية الأخرى تتبنّى الحياد، لكنها أيضاً عاجزة عن الاصطفاف مع أي طرفٍ بسبب تداعيات ذلك على الأمن الغذائي، وعدم رغبتها في خسارة حلفائها الاستراتيجيين، في آن واحد، كما في حالة مصر وأغلب الدول الأفريقية، والاكتفاء فقط بالدعوة إلى وقف الحرب أو إدانة الغزو.
خلاصة القول: لم تستقرّ التحالفات الدولية بعد، وما زالت تتأرجح، ما يؤشّر على غياب البيئة الدولية لخوض حرب عالمية ثالثة محاورها واضحة، أقلّه في المدى المنظور لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، على الرغم من وجود مؤشّرات جدية محتملة لاندلاع هذه الحرب التي يدفع الخوف منها أو الرغبة في خوضها إلى سباقٍ محموم للتسلح، ولا سيما في المجالات النووية. كذلك يكمن الخوف في امتلاك تقنيات الحرب "السيبرانية" التي تتمرّس فيها كل من روسيا والصين، وربما تتفوق فيها على الولايات المتحدة، بوصفها السلاح الأكثر فتكاً في الحرب العالمية الثالثة المقبلة. لذا من المبكر القول، بعد كل ما تقدّم، بقرب اندلاعها، على الرغم من مؤشّرات أخرى تعتبرها وشيكة.. لم تنضج بعد.