الخسارة الحقيقية في هزيمة ترامب
مُخطئٌ من يحسب أن الخسارة العربية في هزيمة الرئيس دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية تكمن فقط في فقد الغطاء الداعم والمظلة الحامية لسياسات حكام عرب وتصرفاتهم، فربما كان ترامب من أكثر الرؤساء الأميركيين تسامحاً مع النمط العربي في إدارة الشعوب والدول. لكن رحيله عن البيت الأبيض لا يعني بالمرّة أن خلفه الديمقراطي، جو بايدن، سيمسك العصا للعرب أو لغيرهم، أو سيقوم بكشف حساب يومي لأوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي وأفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، فالمسافات بين ترامب وبايدن ليست بهذا الاتساع الذي يتصوره، أو بالأصح يطمح إليه، بعض ممن أحبطتهم شعبوية ترامب وسياساته البلطجية.
سر حزن قادة وساسة وإعلاميين وطبّالين عرب غياب النموذج الذي كان يجسّده ترامب، وتلك هي الخسارة الحقيقية والأهم، فقد كان الرجل يقدّم، بإبداع، نموذجاً حداثياً للدكتاتور صاحب الرؤية الأحادية المطلقة. الحاكم نرجسي الطباع عنصري النزعة بوهيمي المرجعية، إذ لا قناعات توجّهه سوى ما يعتبره إلهاماً خفياً، خصّه به الله إن كان مؤمناً، أو وهبته إياه الطبيعة إن كان ملحداً أو لا دينيا. ذلك هو "النمط" الذي دخل البيت الأبيض للمرة الأولى منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية. وهو النمط الراسخ في البلدان غير المتحضرة إنسانياً، وإن كانت متقدّمة اقتصادياً أو ذات ثقل عالمي، بالمعايير الأخرى لتقدم الأمم، خلاف الرقي الحضاري واحترام الإنسانية جوهرا وكلمة سر في بقاء البشرية ووجودها وازدهارها.
وعلى الرغم من انتشار هذا النموذج الهمجي، لم يكن من اليسير استدعاءه ليتباهى به سحرة فراعين العالم الثالث، إذ لكل من تجلياته مثالب وثغرات واضحة. من روسيا الشيوعية إلى الصين التي تطبق الاشتراكية على الشعب والرأسمالية على الحكام ومن في ركابهم، إلى أفريقيا البدائية القبلية، وأميركا الجنوبية التي يرزح معظم شعوبها تحت خط الفقر، فيما حققت بعض دولها قفزاتٍ تنمويةً بوقوف الشعوب مع حكامهم، لا تحت أقدامهم، على الرغم من أن بعضهم شعبويون بامتياز. في المقابل، تحتفظ الولايات المتحدة الأميركية لدى الشعوب العربية والمتخلفة بصورة ذهنية مبهرة، كأقوى وأعظم دولة وبلد الحريات وأرض الأحلام التي يتمنّى كل شاب وفتاة الحياة فيها والانتساب إليها.
ظل الساسة العرب والعالمثالثيون عقودا تحت وطأة تلك المقارنة، الظالمة في نظرهم، مع الولايات المتحدة. لذا لم يكن الاحتفاء بتولي شخص مثل ترامب بسبب قناعاته السطحية وطريقته التجارية في النظر إلى الأمور وإدارة علاقات بلاده، وإنما لأنه أسقط ذلك الحاجز النفسي والمعنوي بين واشنطن وتلك العواصم المنكوبة بمن يحكمونها. وأتاح وجودُه للمدلسين والكذابين استدعاء أحداث ووقائع كثيرة لكسر ذلك النموذج التقليدي الشهير لدولة الحريات التي تقدّس حق الفرد، ولا بطش فيها ولا ظلم. فامتلأت الشاشات العربية بمشاهد قمع الشرطة التظاهرات، واستهزاء ترامب وتطاوله على وسائل إعلام شهيرة. ثم جاءت حوادث قتل أميركيين سود بواسطة رجال الشرطة، لتتوج هذه المقارنات التي استحضرها الإعلام العربي، ونفخ فيها من روحه، واستشهد بها على أن لدى الأميركيين أيضاً ما يعانون منه، وكيف أن للشرطة هناك أخطاء أسوأ مما يشتكي منه أي مواطن عربي مقهور، إلى آخر تلك القياسات الفاسدة نوعاً وكماً.
ولا حاجة هنا للحديث عن الفردية المطلقة التي كان يدير بها ترامب كواليس الإدارة والحكم. من إقالات غير مبرّرة، إلى قرارات منفردة يفاجَأ بها المختصون بصناعتها ومن سينفذونها. فضلاً عن العشوائية والرعونة وضيق الأفق في مواجهة أزمة كارثية، مثل أزمة كورونا. إلى آخر السلسلة الطويلة من التصرّفات التي نراها دائماً في بلداننا. وحين يسقط من يحكم بالمنهج والعقلية هذين في الولايات المتحدة، فقد ضاعت على العرب فرصة ذهبية للتماهي مع الأميركيين ورفع شعار "ها نحن وأميركا سواء"، وتلك هي الخسارة الحقيقية للحكومات العربية الرشيدة.