الخرطوم ــ تل أبيب... قلة الأخلاق أولاً

26 ابريل 2023
+ الخط -

كل ما يجري في السودان منذ أسبوعين دنيء. الحربُ أصلاً بحد ذاتها مرعبة، فما بالك إن كانت من صنف اقتتال رفاق سلاح فهموا السياسة والحكم وإدارة البلد والمصلحة الوطنية والعلاقات مع الخارج مسابقةً في الدناءة وقلة الأخلاق، بغرض احتكار السلطة ولو على جثث السودانيين وعلى أنقاض بلد هو أصلاً من بين الأفقر والأتعس في المعمورة؟

منذ اللقاءات السودانية ــ الإسرائيلية في عنتيبي، مطلع 2020، وتلك التي حصلت في الخرطوم، مطلع العام الحالي، وما بينهما من زيارات سودانيين إلى تل أبيب، كُتبت عشرات التقارير عن المدى الذي وصلت إليه علاقات الجنراليْن الحليفيْن في الأمس، المتحاربيْن اليوم، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) مع إسرائيل بسرعة قياسية، سمحت بتقسيم المهام على المؤسّسات المسؤولة عن هذه العلاقات: وزارة الخارجية الإسرائيلية تتولى التواصل والاتصال مع البرهان في ما يتعلق بالتطبيع، بينما الموساد على خط مفتوح مع حميدتي بشأن قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب. ويسري التخصّص على الجهة السودانية أيضاً، ذلك أن شقيق حميدتي ونائبه في قيادة قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو (يسمّونه لواء)، مسؤول عن التنسيق مع الدولة العبرية، وهو سبق أن زار تل أبيب. وكان هذا كله معروفاً منذ ما قبل تفجر الحرب في 15 إبريل/ نيسان 2023 بين الجيش و"الدعم السريع"، لكن ما صار الإعلام العبري يسرّبه منذ اندلاع المعارك عن المستوى الذي بلغته "الثقة" والاندماج بين حكام تل أبيب والخرطوم يصعُب أن يوصَف بغير النذالة من الطرف السوداني. دناءة ونذالة مرفقَان بأطنانٍ من علامات التعجب والاستفهام: متى تمكّن الطرفان من نسج علاقة الحب هذه؟ ماذا تحمّل المسؤولون السودانيون من أعباء الصراع العربي ــ الإسرائيلي حتى يصبحوا علناً في الجانب الإسرائيلي من هذا الصراع؟ ما دخلُهم أصلاً حتى يشدّوا على يد تل أبيب ضد "الإرهاب الإسلامي"، إن استعرْنا مصطلحات جماعة حميدتي. من أين يولَد كره الذات هذا إلى هذه الدرجة؟ لماذا تجد اسم دولة الإمارات في كل مرّة تقرأ عبارة تتضمّن مصطلحات أربعة: تطبيع وبلد عربي وإسرائيل؟

يُخبرك موقع "والاه" الإسرائيلي قبل يومين أن وزير الخارجية إيلي كوهين دعا البرهان وحميدتي إلى اللقاء في إسرائيل لبحث التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية إسرائيلية، وتؤكّد وزارة الخارجية الإسرائيلية الخبر. ويكشف موقع أكسيوس الأميركي أن البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية طالبا إسرائيل، الأحد الماضي، بالضغط على البرهان وحميدتي للموافقة على وقف إطلاق النار. أما حبّة الكرز فوق قالب الحلوى كما يقول الفرنسيون، فيضعها مستشار حميدتي، ويُدعى يوسف عزت، قبل يومين، بمقابلة مع قناة كان الرسمية الإسرائيلية، وفيها يتقيأ الرجل كل المشروع السياسي لجماعته بالاقتباسات التالية: الجيش السوداني يشبه الفصائل الفلسطينية الإرهابية التي تقاتل إسرائيل. ما نتعرّض له سبق أن عانت منه إسرائيل آلاف المرّات من الجماعات الإرهابية، مثل حماس وغيرها. نقول للشعب الإسرائيلي إن ما نتعرّض له وتتعرّض له الخرطوم وقوات الدعم السريع من هجوم، استغله الجيش واستغلته العصابة الإسلامية.

على الأرجح لا يقرأ حميدتي ولا البرهان ماذا يقول أكبر استطلاع رأي عربي، ويجريه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحت اسم "المؤشّر العربي"، لكن مسؤولي وزارة الخارجية الإسرائيلية والموساد وبقية مؤسسات الحكم، يقرأونه بلا شك. في هذه المؤشر بنسخة عام 2022، يعارض 72% من 2400 سوداني مستطلع بين 15 يونيو/ حزيران 2022 و25 أغسطس/ آب 2022 اعتراف بلدهم بإسرائيل، فهي بالنسبة إليهم "دولة استعمار واحتلال واستيطان ودولة توسّعية تسعى للهيمنة أو احتلال بلدان في العالم العربي وثرواته. 68% من المستطلعين إياهم وفق العيّنة نفسها يعتبرون أن القضية الفلسطينية قضية جميع العرب وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. أمام معطيات كهذه تدركها المؤسسة الإسرائيلية الرسمية تماماً، يصبح الهمّ بإصلاح ذات البيْن مفهوماً جداً.

دناءة حرب السودان الحالية لا تضاهيها إلا قلة أخلاق زجّ فلسطين والفلسطينيين في سعي العسكر لاستمالة إسرائيل، كلُّ إلى صفه. وقلة الأخلاق تلك بدورها لا ينافسها إلا جهل متملّقي حبّ تل أبيب كم يحتقرهم حكّام إسرائيل من أعماق قلوبهم.