الحوثيون والإبراء المستحيل
تسير الهدنة اليمنية على ما يرام. رغم الخروق المتعدّدة والاتهامات المتبادلة منذ نحو أسبوعين، لا أحد يبدو أنه معني حالياً بإسقاطها، فالعنوان العام والظاهري للمرحلة الحالية هو محاولة إنهاء الحرب وإحلال السلام. على الأقل، هذا ما أُخبِر اليمنيون به، عندما جُمعت القيادات السياسية في الرياض، بذريعة إجراء مشاورات قبل أن يتبيّن أنها مجرّد غطاء لفرض التصور السعودي - الإماراتي للمرحلة المقبلة، وإقصاء الرئيس عبد ربه منصور هادي، عبر إجباره على "تفويض" صلاحياته إلى مجلس قيادة رئاسي من ثمانية أشخاص موزّعين مناصفةً بين الشمال والجنوب، وبخلفيات سياسية متباعدة، تجعل من تجانسهم في العادة أمراً مستحيلاً، وليس فقط شبه مستحيل. لكن جميع هؤلاء يدركون جيداً أنهم لا يملكون القرار، والمطلوب منهم تنفيذ ما يُطلب منهم وتمرير المرحلة، رغم غموضها، بما في ذلك وضع هادي. وليس المقصود بذلك ما إذا كان قيد إقامة جبرية فقط، بما أنه لا أحد خرج ليعلن أنه تواصل معه أخيراً، بل ما إذا كان لا يزال يحمل صفة الرئيس، خصوصاً بعدما أنزلت صوره من المؤسسات العامة، ولم تعد أخباره ترد عبر وكالة الأنباء الحكومية سبأ، وسَجلَ على نفسه أنه أول رئيسٍ يمضي معظم فترة رئاسته خارج اليمن، ويشهد على تنصيب خلف له خارج اليمن.
وعلى مدى الأيام الماضية، راقب الحوثيون جيداً كل هذه التحولات في المعسكر الآخر. وبعيداً عن التعليقات الاستعلائية لكثيرين من مسؤوليهم، أو ممن يُحسبون عليهم، قرأوا في مجالسهم الرسائل التي ينطوي عليها مجلس القيادة الرئاسي، وهم الأكثر خبرةً بشأنه، بما أنهم كانوا مبادرين في عام 2016 إلى إنشاء المجلس الرئاسي الأعلى، ويطلقون على من يرأسه (حالياً مهدي المشّاط) صفة الرئيس. حتى أن بعضهم ذهب إلى القول إن المجلس الجديد المعلن في الرياض هو تلبية متأخرة لطلبٍ حوثيٍّ منذ ست سنوات، وإن كانت الصيغة الحالية بعيدة كلياً عمّا تريده هذه الجماعة. فما تسعى إليه، على ما يبدو من التصريحات، والسماح للمبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ بإجراء زيارة إلى صنعاء هي الأولى منذ تعيينه، الحصول على مكاسب جديدة تلائم المرحلة ومتطلباتها.
تحدّد الجماعة أربعة شروط حالياً لتقتنع بأن هناك "نيات حقيقية للسلام"، وهي "إيقاف العدوان" و"رفع الحصار"، و"دخول سفن المشتقات النفطية"، و"الشروع بآلية تنفيذية لصرف رواتب موظفي الدولة". والمشكلة ليست في هذه المطالب، لأن أي عملية جديدة لإنهاء الحرب، لا بد أن تتضمّن معالجة هذه القضايا، لكن الحوثيين يريدونها أن تكون بمثابة إبراء لهم عن كل ما اقترفت أيديهم. يريدون أن تتوقف الحرب من دون أي تنازل أو تحمّل أي مسؤولية عن دورهم المركزي في اندلاعها، وما جرّته من ويلات على بلد يعاني من أزمات. يحاولون الإيهام بأنهم ليسوا مسؤولين هم أيضاً عن الجرائم التي ارتكبت طوال السنوات الماضية. وكأن الطرف الآخر فقط في الحرب هو من تلوثت يداه بالمجازر، والحصار، والاختطاف، والقتل خارج القانون، والنهب والفساد والإثراء غير المشروع. وعلى الرغم من أن الحوثيين يحكمون معظم الشمال، ويفرضون الضرائب والتبرّعات القسرية بمناسبة وغير مناسبة، ويجنون الإيرادات من ميناء الحديدة، إلا أنهم يحرمون المواطنين المقيمين في مناطق سيطرتهم من رواتبهم المستحقّة، متذرّعين بنقل المصرف المركزي إلى عدن منذ سنوات، فأكثر ما يجيدونه رمي المسؤولية على المعسكر الآخر.
فعلياً، ما يريده الحوثيون اليوم ليس الشروع بآلية تنفيذية لصرف رواتب موظفي الدولة بل "آلية" لنقل مسؤولية الحرب وويلاتها إلى الطرف الآخر وإغلاق هذه الصفحة من دون أي مساءلةٍ بشأن الأموال والحرب.