الحكومة السائلة في المغرب

20 يوليو 2022

عزيز أخنوش يتحدث في منتدى في بريست غرب فرنسا (11/2/2022/فرانس برس)

+ الخط -

ليعذرني كل من قرأ كتب عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان، صاحب "مفهوم السيولة"، إذا ما حاولتُ أن أسقط هذا المصطلح قسراً على الواقع المغربي، ليس استسهالاً منّي لهذا المفهوم المركّب والمعقد، والذي حاول صاحبه أن يشرحه في ثمانية مؤلفات، بدءاً من "الحداثة السائلة"، الكتاب المرجعي في فهم هذه الظاهرة التي طبّق صاحب نظريتها على الأخلاق والحب والأزمنة والمراقبة والشر والخوف، حتى تحوّل هذا المفهوم الفيزيائي إلى أطروحة فكرية مرجعية في علم الاجتماع المعاصر. لكن من يتأمل واقع المغرب اليوم، في ظل حكومة افتراضية لا يربطها بالواقع سوى كمية النقد الموجه إليها، بعد أن وضعت نفسها، إذلالاً وليس اختياراً، في موقع ممتصّ الصدمات، سيجد لا محالة تقاطعاتٍ كثيرة مع التحاليل والأدوات التي استعملها عالم الاجتماع البولندي لتفكيك مجتمعاتنا المعاصرة لفهم الواقع المغربي اليوم في ظل حكومةٍ تفتقد إلى أدنى حس سياسي، وبالأحرى أن نتحدّث عما هو أخلاقي، إذا افترضنا أنه ما زال في عالمنا سياسيون يؤمنون بالأخلاق. فخلال عشرة أشهر من عمر هذه الحكومة التي يُفترض أنها جاءت نتيجة عملية اقتراع عام، ويرأسها رجل أعمال يجمع ما بين تدبير الشأن العام وإدارة أعماله الخاصة، والانتقادات تلاحقها، أو بالأحرى تلاحق رئيسها عزيز أخنوش، المثير للجدل منذ كان أقوى وزير داخل الحكومة السابقة، يستمد قوته من ادّعائه قربه من القصر. وفي أقل من أربعة أشهر، يشهد الرجل ثاني حملة انتقادات واسعة على وسائط التواصل الاجتماعي، تطالب برحيله من رئاسة الحكومة، بسبب الارتفاع المهول في الأسعار، ولكن أيضاً بسبب كونه صاحب أكبر شركة توزيع محروقات في المغرب استفادت من الارتفاع الكبير في أسعار المحروقات، نتيجة تداعيات الحرب في أوكرانيا.

فيما شهدت مواقع التواصل الاجتماعي حملات تضامن وتعاطف واسعة مع المتضرّرين من الحرائق، اختار رئيس الحكومة وأحد وزرائه حضور حفل افتتاح أحد المهرجانات الصيفية

هذا الوضع الملتبس لرئيس الحكومة غير المبالي، ورجل الأعمال، أجّج غضب الشارع المغربي، خصوصاً على وسائط التواصل الاجتماعي، الفضاء الوحيد المسموح فيه بالاحتجاج حتى إشعار آخر، لصبّ جامّ غضبه على عدم اكتراث الحكومة ورئيسها بمعاناة المواطنين جرّاء غلاء الأسعار، وحدّة حالة الجفاف التي يعرفها المغرب. ومما زاد الطين بلة غياب الحكومة ورئيسها ستة أيام شهدت فيها عدّة مناطق شمال المغرب اشتعال عدّة حرائق، ساهمت درجات الحرارة المرتفعة وسوء الأحوال الجوية في احتدامها، ما نتج عنه تدمير آلاف الهكتارات من الغابات، وتهجير آلاف السكان من عشرات القرى التي حوّلتها الحرائق إلى رماد. وفي الوقت الذي شهدت فيه مواقع التواصل الاجتماعي حملات تضامن وتعاطف واسعة مع المتضرّرين من الحرائق، اختار رئيس الحكومة وأحد وزرائه حضور حفل افتتاح أحد المهرجانات الصيفية في مدينة رئيس الحكومة، وهو ما جرّ عليه وابلاً من الغضب والانتقادات لغياب حسّه السياسي، أو لعدم اكتراثه بما يعاني منه المواطنون الذين يفترض أنه يرأس الحكومة التي تمثلهم، وإلا لماذا سمّيت حكومة؟ وهنا سأستعير من باومان ما سبق أن قاله في إحدى المقابلات عندما تساءل: "كل الحكومات، بغضّ النظر عن توجهها السياسي، مسؤولة عن توفير كل احتياجات شعبها على المستويات كافة، وإلا فلم سميت بالحكومة ولم تستحق قيادة البلاد؟".

وإذا كان لباومان فضل في مساعدتنا على فهم تحولات مجتمعاتنا، فهو يتمثل، لا محالة، في تركه مجموعة من الأدوات النظرية والسياسية القادرة على استيعاب خصوصية مجتمعاتنا التي انتقلت، حسب تصوّره، من الحالة الصلبة إلى حالة السيولة والمراوغة. وفي الحالة المغربية، خصوصاً مع الحكومة الحالية، يجد مفهوم السيولة مكانه في تحليل واقع الحال اليوم في المغرب، بعدما تهيّأت الأرضية التي ساعدت في تمدّد سلطة السيولة وسيادتها، أي تلك المرونة في قلب الأشياء رأساً على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها. فلا الحكومة الدستورية هي الحكومة الحقيقة التي تحكم فعلياً، ولا السياسية هي مجموعة القيم التي يجب أن تحكم العلاقة بين العامة ومن يتولّون إدارة الشأن العام، وبتعبير مستنبط من فكر باومان، فقد أصبح اللايقين هو اليقين الوحيد.

حكومة هدفها الأساس إخضاع مواطنيها لسلطة التسليع والاستهلاك

وهنا تبرز أهمية الأدوات النظرية التي استعملها باومان في كتاباته لتفكيك نظم مجتمعاتنا العصرية، مستنداً إلى مفهوم السيولة بمعنى انفصال السلطة أو القدرة على فعل الأشياء عن السياسة، أي القدرة على تحديد الأشياء التي علينا فعلها، مع ما يصاحب هذا الفصل من مرونة ومراوغة، بسبب غياب القوة الفاعلة أو ضعفها للقيام بمهامها، ففي زمن السيولة كل شيء متوقع وممكن حدوثه، ولا شيء يمكن فعله لمنع حدوثه!

وبتعبير آخر، نحن نعيش مرحلة تفكّك القيم السياسية، بعدما انتقلنا إلى مرحلة السياسة السائلة، وهي مرحلة تحلل المفاهيم الصلبة المتعارف عليها، والتحرر من كل القيم والأعراف النبيلة التي تجعل من العمل السياسي فعلاً نبيلاً عندما يكون في خدمة الشعب وفي مصلحة البلاد، بما أننا نجد أنفسنا أمام حكومة هدفها الأساس إخضاع مواطنيها لسلطة التسليع والاستهلاك في وقتٍ يغيب فيه دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، لتترك الفرد/ المواطن في مواجهة تحولات السوق، خاضعاً لسلطتها وخادماً لأغراضها، وهو ما يؤدّي إلى تنامي القلق الجماعي الذي تعبّر عنه حملات الانتقاد على مواقع التواصل الاجتماعي للحكومة ولرئيسها. والخوف الكبير هو الاستهتار بهذا القلق، وعدم الاكتراث بما يسبّبه من عدم اطمئنان لدى الفرد. وقد يتحوّل، كما يخبرنا بذلك باومان، إلى هلع لا يمكن إدارته أو التحكّم فيه عندما يخرج عن سيطرة الفرد ويتجاوز قدرة أدوات الضبط والمراقبة والعنف الخاضعة لسلطة الدولة على احتوائه أو التنبؤ بمآلاته!

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).