الحكاية لم تعد تضحك أحدًا
ضحك المصريون والعالم على ما يجري في مصر، حتى البكاء على وطنٍ لم يكن في أحط عصور انهياره على هذه الحالة من فقدان العقل وفقدان الروح وغياب الأمل في استعادة ملامحه.
أكثر من أسبوع، استهلك فيه المصريون أكثر من نصف مخزون العالم من السخرية من السلطة ومن الحياة ومن أنفسهم، وهم يتابعون ويتفاعلون مع العرض المسرحي المثير، والمتصاعد دراميًا (القطار: المجند والسيدة والكمساري) الذي فرضته عليهم جهة الإنتاج المحتكرة لحقوق التلاعب بالعقل العام والوعي الجمعي.
أرادها المنتج مسرحيةً ساخرة، فتلقفها منه الجمهور وجعلها مسخرة، انتقم فيها ممن يصرّون على أنه بلا عقل، وبلا وعي، أولئك الذين ظنوا أنهم صاروا المتحكّمين في آليات الإرسال وميكانيزمات التلقي، معًا، فاطمأنوا إلى أن التوليفة المكرّرة للمرة الألف ستلقى الاستجابة ذاتها والإقبال نفسه.
كان الأمر يشبه تناول قنابل الغاز وقت ثورة يناير 2011، عندما تعلم جمهورها مهارة التقاط القنابل التي تلقيها عليه الشرطة، ثم إعادة استخدامها ضدها، ليتحوّل السلاح المصوب ضد الناس إلى وسيلة دفاع شعبي في لحظة واحدة.
في محصلة أسبوع عرض المسرحية، عاشت مصر ما يشبه أجواء السيكودراما، ذلك النوع من العلاج الذي تمتزج فيه الدراما بعلم النفس، ويعتمد على التفاعل بين الجمهور وصناع الرواية، إلى الحد الذي يحدث فيه تبادلٌ للأدوار، فيصير الجمهور هو بطل القصة والمتحكّم في مساراتها.. وإن كانت السلطة تستخدم السيكودراما هنا لمفاقمة المرض وافتراس المريض، وليس لمعالجته كما يفترض.
في كتابه "السيكودراما فلسفتها وممارستها"، يقول الدكتور رأفت عبد الحميد أحمد إن جمهور السيكودراما يشبه جمهور المسرح، لكن الأول يخدم ويساند بطل الرواية، وهو ذاته (الجمهور) يساعد بطرح موضوع على المسرح، فيصبح الجمهور هو البطل، ففي مساعدة المريض، الجمهور يصبح هو الرأي العام بأفعاله وتعليقاته العفوية ما بين الضحك والاحتجاج العنيف، وعندما يساعد الجمهور بالموضوع يصبح هو المريض أو المشارك أو البطل في الدراما النفسية، أي يصبح الموقف معكوسًا.
وهذا تقريبًا ما جرى في العرض المسرحي المخابراتي الأخير، والذي تم إخراجه وتقديمه باستعجال شديد، على وقع الصدمة العنيفة التي تلقاها عبد الفتاح السيسي، حين فاجأه الشعب بأنه يمكن أن يرفض الظلم ويتصدّى لجنون جرافات الإزالة التي أطلقها السيسي على القرى والمدن.
كان لابد من اللجوء إلى دراما دغدغة المشاعر الوطنية برواية ساخنة، لانتشال سائق الجرافة التي تهدم بحدوتة عاطفية في القطار، يظهر فيها مظلومًا ومفترى عليه من محصل القطار، فلا يجد من يكفكف دمعه، ويبلسم جرحه سوى المواطنة الشريفة التي تتدخل في اللحظة الحاسمة لإنقاذ المجند (الجيش الحامي المضحي) من أنياب المدنيين الأوغاد.
طبخة درامية ماسخة وفقيرة القيمة الفنية والمنطقية، سرعان ما ارتدت في صدر صناعها، وهنا عبقرية الجمهور الذي يستحق جائزة أفضل أداء في الرواية، والذي استوعب الضربة الدرامية الأولى، ثم خطف الرواية من المنتج والمخرج، وقرر تقديمها على طريقته، ومعالجتها دراميًا بمفهومه هو، وبوعيه الخاص، ليتحول الجمهور بطلًا، والممثلون مجرّد أدوات مساعدة، بل متفرّجين ينظرون في دهشةٍ إلى سلاحهم المدمر، وقد وقع في أيدي المستهدفين به، والذين فكّوا شفرته وطوّروه، وأطلقوه على من صنعوه أول مرة.
يستحق الجمهور (الشعب) في هذه الرواية الركيكة جائزة التمثيل الأولى، لأنه قام بأصعب أدوارها، متنقلًا من دور المشاهد الذي يعلم يقينا أنه بصدد عرض درامي مبهر، لكنه مضطر، طوال الوقت، لتأكيد أن ما يشاهده وقائع فعلية، بنت اللحظة، وليس مجموعة مشاهد تمثيلية، بنت كاتب السيناريو والمخرج والمنتج.. ثم في لحظةٍ، يباغت صناع العمل بأنه وضعهم في مقاعد المتفرّجين، وانفرد هو بإعادة صياغة الرواية والتحكّم في خطوطها الدرامية، ونهايتها حيث أسدل الستار على سخرية لاذعة من صناع المسخرة السياسية والاجتماعية الممتدة منذ سبع سنوات.
وكأن الجمهور قرّر أن ينتقم لنفسه، وللضحايا المغلوب على أمرهم في الرواية المملة، فلم تكن سخرية الناس من سيدة القطار، بقدر ما كانت موجهة إلى الذين أهانوا المواطن، وفكرة المواطنة نفسها، كما أهانوا الجندي وقيمة الجندية ذاتها.