الحركة المدنية المصرية بين أزماتها الداخلية والمواجهة مع النظام
يثير الخلاف الذي حدث أخيرا بين بعض مكونات الحركة المدنية أسئلة في غاية الأهمية بشأن مستقبل الحركة وتماسكها، والذي بدأ بانتقادات متبادلة من النقابي كمال أبو عيطة ضد الناشر والسياسي هشام قاسم، في أعقاب إنشاء التيار الحر واختيار الأخير منسّقا للتيار، حيث اتّهمه أبو عيطة بالعمالة والتطبيع. وردّ قاسم عليه باتهامه بتجاوزاتٍ مالية سبق نشرها إعلاميا، وقتما كان وزيرا للقوى العاملة.
ويطمح التيار إلى أن يكون إطارا جامعا للتوجّه الليبرالي المصري. ويضم أحزاب المحافظين والدستور والإصلاح والتنمية ومصر الحرية والتي لا تزال أعضاء بالحركة في الوقت نفسه. وأدى هذا الانتقاد المتبادل إلى تقديم أبو عيطة بلاغا ضد قاسم، ما تسبب في حبس الأخير في قضية لا يوجد فيها سوابق بالحبس الاحتياطي للمتهمين فيها، ثم حجزت للحكم في 16 من هذا شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، واستمرار قاسم محبوسا على ذمّتها حتى تاريخ هذا الحكم.
المهم أن هذه الخلافات الداخلية تزايدت في الشهور الأخيرة، خصوصا بعد انتقاد بعضهم مشاركة الحركة في "الحوار الوطني" من دون تنفيذ شروطها المعلنة منذ البداية. لكن الخلافات لم تصل إلى التقدّم بشكاوى للأجهزة الأمنية أو تحريك دعاوى قضائية بالسب والقذف واتهامات بالفساد أو التطبيع والعمالة لدول خارجية، سواء التي تثار بشكل شخصي، أو وراءها خلاف سياسي وأيديولوجي بين المكوّنات الأساسية للحركة المدنية.
وهناك عدة ملاحظات تتعلق بمدى تأثير هذه الخلافات على مستقبل الحركة ومكوّناتها، وأهمها: أولا، حساسية التوقيت الذي تتم فيه وبشكل خاص في ظل الجدل بشأن ضمانات إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة، وضرورة العمل على إجراء تعديلات في القوانين المنظّمة للحقوق السياسية والضامنة نزاهة هذه الانتخابات، وإنهاء أزمة الحبس الاحتياطي المطوّل الذي يتعرّض له آلاف من المصريين، وكذلك المحكوم عليهم في قضايا تتعلق بالعمل السياسي وإبداء آرائهم على منصّات التواصل الاجتماعي. ويتطلب تحقيق اختراق في هذه القضايا امتلاك الحركة المدنية أدوات القوة والفعالية، وهو ما يحتاج لتنظيم موحّد وتنسيق عالي المستوى في المواقف، بهدف ممارسة أكبر حجم من الضغوط على النظام السياسي لتغيير مساره.
كما يأتي هذا الخلاف في ظل احتياج شعبي لرؤية مختلفة تجاه الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، وتصرّ فيه الدولة على مزيد من الاقتراض، وتسير في هذا النهج، بغض النظر عن مجريات الحوار الحالي.
يهدف النظام المصري إلى إثارة الخلافات داخل أحزاب الحركة بما يؤدي إلى إضعافها وإجراء تلك الانتخابات كما يريد النظام
ثانيا، هناك امكانية لأن تؤثر تلك الخلافات سلبا على صورة الحركة أمام المواطن المصري، الذي قد يؤدّي إلى تولد انطباع لديه بأنه لا فارق بين النظام والمعارضة، وأنها لا تحترم الحق في الاختلاف مع الآخرين كما يفعل النظام بالضبط، وبالتالي ستخف درجة تعاطفه معها.
ثالثا، خروج هذا النزاع عن نطاقه الشخصي بين أطرافه، وانتقاله إلى درجة عالية من التسييس والتحزّب بتبني أطراف، مثل حزب الكرامة والتيار الحر، مواقف الدفاع عن قياداتهم بمنطق "دافع عن أخيك ظالما أم مظلوما". إلى درجةٍ وصلت إلى إطلاق اتهامات تجاوزت هشام قاسم إلى التيار نفسه والفكرة الليبرالية نفسها، وطاولت التيار الناصري ذاته عوضا عن أبو عيطة. وهناك مخاوف من امتداد الصراع إلى أطراف أخرى في الحركة المدنية إذا تبنت موقف أحد طرفيه.
رابعا، هناك دلائل متنوعة على وجود دور لأجهزة الدولة في تعظيم الصراع وتصفية الحسابات مع هاشم قاسم، بوصفه نموذجا معارضا يمتلك صوتا عاليا ضد نظام عبد الفتاح السيسي وسياساته، سواء من خلال التحرّك السريع للنيابة العامة بالتحقيق في تلك البلاغات، وتدخّل وزارة الداخلية بتقديم أفراد قسم شرطة سيدة زينب بلاغا ضد قاسم باتهامه بالتعدّي عليهم بالسب والقذف بالرغم من شهادات المحامين الحاضرين بعدم حدوث ذلك. ناهيك عن اصدار قرار من النيابة بإخلاء السبيل مقابل كفالة مالية، وهو ما لا يحدُث في القضايا المناظرة الخاصة بالسب والقذف بين المواطنين أنفسهم عبر الإنترنت. وهناك توقعاتُ بأن يكون ذلك مقدّمة لتصفية حسابات أخرى مع باقي مكونات التيار وإضعافه، خصوصا حزب الدستور، في ظل زيادة انتقادات الحزب ورئيسته جميلة إسماعيل سياسات النظام في الشهور الأخيرة. وهو استمرار فيما يبدو لتوجه سلطوي بإثارة الخلافات والنزاعات بين مكوّنات الحركة المدنية التي تعاظم دورها منذ إطلاق "الحوار الوطني" بهدف إضعافها وإحداث انقساماتٍ فيها، ثم الاستفراد بها فرادى، وشغلها بالنزاعات الداخلية بعيدا عن مواجهة سياسات النظام في تطبيق لسياسة "فرّق تسد".
نظام السيسي هو المستفيد الأكبر من إثارة الخلافات والانشقاقات، سعياً إلى إضعاف التنسيق بين مكونات المعارضة
خامسا، تسعى الدولة من إطالة أمد هذا النزاع، إلى الحد من مطالب الحركة المدنية في ظل الجدل حول ضمانات نزاهة الانتخابات الرئاسية ورفض تكرار نموذج 2018، وبالتالي الهدف هو إثارة الخلافات داخل أحزاب الحركة بما يؤدي إلى إضعافها وإجراء تلك الانتخابات كما يريد النظام. ويتوازى ذلك مع إثارة الخلافات الداخلية بين قياداتها حتى لا تتوحد وراء مرشح معين، واستغلال رغبة البعض من قياداتها بالترشح، مما يؤدي إلى إعطاء مصداقية لهذه المعركة الانتخابية من ناحية ، وتفتيت الأصوات التي ستنقسم بين مرشّحين متنافسين لمعسكر المعارضة، وهو ما يزيد الخلاف بين التوجهات السياسية المختلفة داخل الحركة.
وتأتي تلك المعركة مع نهاية الحوار الوطني الذي وصل إلى مراحله الأخيرة، وبالتالي، تحتاج الدولة لتمرير ما تريده من هذا الحوار من توصيات سوء فيما يتعلق بالنظام الانتخابي أو بعدم الاستجابة للتعديلات التي تسعى إليها المعارضة فيما يتعلق بإجراءات الانتخابات الرئاسية.
ورغم تأكيد الحركة المدنية حرصها على التنوع الفكري والسياسي بين جميع مكوّناتها الليبرالية والقومية واليسارية، والمطالبة بالإفراج عن قاسم إيمانًا من الحركة بأن عقوبة الحبس لا ينبغي أن تفرض على أصحاب الرأي الحر والمواقف المستقلة، والاعتزاز بدور أبو عيطة، إلا أن هذه الأزمة قد يكون لها آثار طويلة المدى على تماسك الحركة، خصوصا مع احتمال إصدار حكم بحبس قاسم.
والخلاصة هنا أن نظام السيسي هو المستفيد الأكبر من إثارة تلك الخلافات والانشقاقات، سعيا إلى إضعاف التنسيق بين مكونات المعارضة المدنية والقضاء على دورها فيما بعد، فيما ستكون المعارضة هي الخاسر، في وقت تحتاج فيه إلى الوحدة والاتفاق. ولذا يجب أن تكون هناك وسيلة لتلافي الخلافات المستقبلية داخل الحركة، من قبيل مدونة سلوك داخلية على سبيل المثال.