الحركة التصحيحية... آخر بيْعَة

20 نوفمبر 2022

(وسام الجزائري)

+ الخط -

توحي بعض المماحكات الإعلامية بأننا نعاني من فوضى في المصطلحات، تصل إلى حدود التصادم. فمثلاً؛ نحن نسمّي استيلاء حافظ الأسد على السلطة، في مثل هذه الأيام من سنة 1970، انقلاباً، وجماعة حافظ يعتبرونه حركة تصحيحية. نقول عمّا حدث في مارس/ آذار 2011 ثورة، وهم يسمّونه تمرداً، ومؤامرة صهيونية، حتى إنهم فبركوا، أيام حصار حي بابا عمرو في حمص، صورة لمتظاهرين في الحي يحملون علم إسرائيل.

ما تزال هذه الفوضى مستمرّة، فبعض المحاورين، المماحكين، إذا دخلوا اليوم في سجال مع رجل علماني، ووجدوه متشدّداً في رأيه، يقولون عنه داعشياً.. وهكذا حتى شاعت تسمياتٌ من قبيل دواعش الشيوعية، دواعش العلمانية، دواعش الليبرالية.. وهي تسمياتٌ غير مقبولة، ولا حتى على سبيل المقايسة، فحروف "داعش" الأربعة أتت من (دولة إسلامية عراق شام).. فكيف يكون العَلماني، أو الشيوعي، أو الملحد، داعشياً؟ وفي المقابل، لا يجوز اتهام السواد الأعظم من المسلمين بالدعشنة، ولكن يبدو أن الثورات، والحروب، والدماء التي تسيل، واستعصاء النصر، تدفع بعض الناس إلى خانة التطرّف، وتأتي بعدها مؤثرات خارجية، وتمويلاتٌ ضخمة، فتحول حالة التشدّد عند بعض الأشخاص إلى واقع مخيف.

اعتدنا، منذ مطلع حياتنا، أن تطرق أسماعنا مصطلحاتٌ وشعارات مصاغة بأسلوب أدبي رفيع، كالشعار الذي أطلقه إعلام عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات: كل شيء للمعركة. بصراحة؟ كنا، في تلك الأيام، نرى هذا الشعارَ عظيماً. كانت ثقافتنا على قدنا، فلم يخطر ببالنا أن هذا الشعار يعني إغلاق الفضاء العام، فلا أحزاب سياسية في البلاد، ولا صحافة حرّة، ولا حرّيات شخصية، بالإضافة إلى تنفيذ "شوية" اعتقالات وتعذيب في أقبية المخابرات، وكلها مصحوبةٌ بخطاباتٍ ناريةٍ من "صوت العرب"، بصوت أحمد سعيد الذي كان يحقّ له أن يهاجم كل مَن يخالف هذا الخط، ويتهمه بالعمالة للإمبريالية والصهيونية والرجعية.

ويبدو أن البعثيين السوريين، من جماعة الحركة التصحيحية، شعروا بالغبن، إذ مَن يكون عبد الناصر حتى يسبقهم إلى طرح شعار فيه كل هذا القدر من الديماغوجية؟ ومِن شدّة غيرتهم، أخذوا الشعار الناصري نفسه، وطرحوه في الأسواق، بعدما أضافوا إليه نكهة تصحيحية حريفة، فأصبح: لا صوتَ يعلو على صوت المعركة. وهؤلاء البعثيون التصحيحيون، في الواقع، أكثر مقدرةً من الناصريين على تحويل الشعارات النظرية إلى حقائق على الأرض.. فقد أفقروا الشعب، وكمّوا الأفواه، ومع ذلك يمتلكون إجابة جاهزة عن أي سؤال محتمل. تسألهم، مثلاً: لماذا نحن فقراء مع أن بلدنا غني؟ الجواب: لأن 85% من إيراداتنا تذهب إلى الجيش. عظيم، وهل جعلنا تخصيص 85% من الناتج الوطني للجيش جاهزين لتحرير الأرض من رجس الصهاينة المعتدين؟ الجواب: نعم. بالتأكيد. سؤال: ولكنكم دخلتم في مجموعة حروب مع العدو الصهيوني، فهل حرّرتم الأرض المحتلة؟ الجواب؛ لا، ولكننا قاتلنا، بقيادة رئيسنا المفدى، في سنة 1973، من أجل تحرير إرادة المقاتل العربي السوري، وتحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وقد حققنا هذا بالفعل.

ومن المماحكات السخيفة التي تدور رحاها على صفحات التواصل الاجتماعي، ضمن هذا السياق، أن العَلمانية على العموم تجربةٌ فاشلة، بدليل أن هتلر كان عَلمانياً، وكذلك صدّام حسين، وحافظ الأسد، وكأنهم لا يذكرون أن شعار الحزب النازي الذي يرأسه هتلر كان الصليب المعقوف، وأنه فتك بكل الأقليات الدينية، وصدّام حسين كان يسمّي معركته مع إيران "القادسية"، وهو الذي أمر بأن تُكتب على العلم عبارة "الله أكبر"، ولم يكن حافظ الأسد، ووريثه من بعده، يفوتان صلاة عيد، أو صلاة جمعة، إلا ويحضرانها، وكان إعلامه يسمي إعادة انتخابه "البيعة"، حتى إن رجاله ألقوا القبض، في أثناء تجديد إحدى البيعات، على بائع خضار فقير، لأنه كان يشير إلى بضاعته ويصيح، ملء فمه: آخر بيعة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...