الحرب على غزّة ومسلسل التطبيع
لن تكون الحرب الإسرائيلية على غزّة من دون ثمن باهظ، وتُخبرنا وقائعها كل يوم أن الفاتورة الكبيرة سيدفعها الشعب الفلسطيني، من الأرواح والبنية التحتية، ولكنها لن تكون بردا وسلاما على إسرائيل، وإنْ لم تكن أقسى الحروب التي خاضتها مع العرب، فهي لن تكون أقلّ ضررا من سابقاتها، في الضحايا والمعنويات والبنى التحتية والخسائر السياسية والاقتصادية والأخلاقية. وهي لن تنتصر من خلال حشد جيشٍِ جرّار لاجتياح غزّة، ولا عن طريق تأييد الولايات المتحدة، وبعض دول أوروبا لها بلا حدود، لأن نتائج هذه الحرب، بقدر ما تبدو محصّنة عسكريا، ستكون كارثية عليها على المديين القريب والمتوسط. وما لا يقبل الجدل أن الفرصة التي جاءت على طبقٍ من ذهب لاجتياح العالم العربي من خلال عملية التطبيع، سوف تتبخّر، وتذهب مع رياح الحرب المجنونة التي ستعيد إسرائيل إلى حجمها السابق، دولة استيطان، ومشروعا استعماريا، وآخر نظام أبارتهايد في العالم.
عملت واشنطن على استثمار حالة الضعف والتشرذم في العالم العربي كي تفرض إسرائيل على المنطقة من خلال اتفاقات التطبيع، وتجاوز عملية السلام التي هي، في جوهرها، الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967. ورغم أن عملية التطبيع حقّقت اختراقا، فإنها بقيت تنتظر الإنجاز الكبير، اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية، وهو ما عملت عليه إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وراهنت على إنجازه قبل الانتخابات الأميركية في نهاية العام المقبل، وسبق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان أن أعلن، قبل أسابيع، في حديث إلى قناة فوكس نيوز الأميركية، أن السعودية اقتربت كثيرا من إقامة علاقات مع اسرائيل، وأن القضية الفلسطينية من بين نقاط الاتفاق الذي يجري التفاوض بشأنه.
أول نتيجة للحرب على غزّة ذات أثر كبير، إعلان مصدر مقرّب من الحكومة السعودية تعليق محادثات التطبيع، بعدما بدأت الرياض تستضيف، في الآونة الأخيرة، وفودا إسرائيلية رسمية تشارك في المؤتمرات الدولية. ومن شأن هذا التطوّر أن يغلق الباب أمام الفرصة التي انتظرتها تل أبيب، وربما ينسفها من جذورها، بالنظر إلى أن الخطاب الرسمي السعودي يرى في ما حصل من عدوان إسرائيلي على غزّة يؤكّد المخاوف السعودية أن الوقت لم ينضُج للتطبيع مع إسرائيل، وأن كل المؤشّرات كانت تؤكّد أن الوضع سينفجر، في ظل وجود حكومةٍ من المستوطنين، مشروعها الوحيد مصادرة آخر ما تبقّى من أراضي فلسطين، وتهجير الشعب الفلسطيني، وتهويد الأماكن المقدّسة، وخصوصا المسجد الأقصى. وعلى الأرجح، سيكون للموقف السعودي تأثيره على مواقف بقية الدول العربية التي اختارت طريق التطبيع بدرجاتٍ مختلفة، وسينعكس على الاندفاعة التي شهدتها ما تسمّى "اتفاقات أبراهام"، حتى لو كانت نتيجة الحرب على غزّة محسومة لصالح إسرائيل، على المستوى العسكري.
المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية من الناحية الاستراتيجية استثمار إيران في هذا الحدث، وسواء شاركت في الحرب مباشرة، أو من خلال حزب الله وأطراف أخرى، أم لم تشارك، فإنها باتت طرفا في معادلة الصراع مع إسرائيل أكثر مما سبق، والذين كانوا يعملون على إبعادها وإضعافها، فرشوا أمامها السجّاد الأحمر، ولن تتمكّن تل أبيب وواشنطن من إخراجها من هذه المنطقة، طالما أنها ترفع لواء فلسطين. وفي جميع الأحوال، لن يكون الدخول الإيراني على الخط، من دون مقابل تتحمّل مسؤوليته الولايات المتحدة وأوروبا، كونهما لم يضعا ثقلهما من أجل حلّ للقضية الفلسطينية، وتجنيب المنطقة ما تعانيه من انهيارات وحروب أهلية وفوضى، سببها رفض إسرائيل التسوية السلمية، وتعطيل مؤسّسات الامم المتحدة، وتجميد العمل بالقانون الإنساني الدولي.