الحرب على غزّة والخسارات الكبرى

01 يناير 2024
+ الخط -

تستمرّ الحرب الظالمة على غزّة، وتكاد تطوي شهرها الثالث، من دون أن يبرز طرفٌ  قادرٌ على ردع الطغاة. لا يمكن أن نغفل كل مشاعر التضامن التي  ساندت غزّة، ورأت في الكيان الصهيوني المحتلّ مجرم حرب. انجلت كل الأكاذيب التي حاكتها إسرائيل في الأسابيع الأولى، وظلت دمويّتها الحقيقة الناصعة الوحيدة. 
الحرب على غزّة من المرّات القليلة النادرة التي ينقسم فيها العالم: مثقفون، فئات شعبية، فنانون، ... إلى مخيّميْن كبيريْن تتقاطع مواقفهما بشكل حاسم. ولكنها الحرب الوحيدة أيضا التي طَرحت أسئلة كبرى، ما زالت تهزّ الضمير والوعي الإنسانيين. كان العالم ينظر إلى جل الحروب السابقة من منظور إنساني حقوقي فحسب، وليس فلسفيا فكريا. حين يتم التشبث بتحديد الطرف الذي كان على حقٍّ فيها، يقف الناس من هذا الطرف أو ذاك لكونه ضحية. سيرون في تلك الحروب معتديا وضحية. تتعاظم مآسي الحروب، ولكن عادة ما يظل مدار النقاش  تحديد الجهة التي بادرت بالظلم، وقديما قيل إن البادئ أظلم.
ربما فاقت الحرب التي شنّتها إسرائيل على غزّة كل الحروب السابقة التي وضعت المخيّمين الكبيريْن أمام سؤال القيم. حين شنّت الولايات المتحدة الحرب على العراق، ارتفعت أصوات عديدة من أجل ايقافها ووضع حدٍّ لأوزارها، لأنها حرب ظالمة، توسّلت بأكاذيب وأراجيف كثيرة من أجل تدمير العراق ومشروعه النهضوي، مستغلة طبعا أخطاء فظيعة ارتكبتها آنذاك القيادة العراقية. وما زال الناس يتذكّرون الأكاذيب التي أصر عليها وزير الخارجية الأميركي آنذاك، كولن باول، حين ادّعى أن العراق على وشك امتلاك السلاح النووي، وتحضر في الذاكرة أيضا صور المدفع العملاق وغيره، وكلها أخبار مضلّلة استعملت من أجل حشد الدعم  لتلك الحرب.
جرّت الحرب الإسرائيلية على غزّة الجميع إلى مختبر عسير، ولم تترك أحدا على الحياد، لأن الأمر غدا على الهواء المباشر. أتاحت الشبكات الاجتماعية للتواصل للناس أن تخوض في هذه الحرب، على خلاف الحرب الأميركية على العراق. ولا أحد يستطيع إقناع الرأي العام أن حركة حماس، بقطع النظر عن التصنيف الذي تعتمده بلدان غربية عديدة أنها تهدّد السلم العالمي، وأنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل. يمكن لأوروبيين عديدين ألا يتقاسموا معها أيا من قناعاتها الأيديولوجية والسياسية، ولكن لا أحد من هِؤلاء يمكن أن يرى فيها شرّا مطلقا وخطرا يحدق بالبشرية.

لا تعدّ إسرائيل واحة الديمقراطية في صحراء العرب المستبدّين. إنها صورة البلد السادي الذي لا يشبع من دماء الفلسطينيين

فشلت كل النماذج التي استلهمتها إسرائيل من الحرب العراقية الأميركية، حين ادّعت أنها تحارب نيابة عن الغرب، وعن كل الفكر الإنساني المتنور الذي يحارب الشر والظلام... إلخ. استعمل نتنياهو، وكل فريقه الحربي، هذه العبارات في  خطبهم ورسائلهم إلى قادة العالم، ولكن النتيجة كانت مخيّبة. كلما طالت الحرب ازدادت عزلة إسرائيل وازداد التعاطف مع الفلسطينيين.
ربما تُدرك إسرائيل بعض أهدافها التي رسمتها بعد أيام قليلة من 7 أكتوبر: تفكيك "حماس" واستعادة أسراها، ولكن يبدو أن التكلفة ستكون باهظة جدا: رسمت هذه الحرب صورة بشعة جدا لإسرائيل. لا تعد واحة الديمقراطية في صحراء العرب المستبدّين. إنها صورة البلد السادي الذي لا يشبع من دماء الفلسطينيين. لن يقف الثمن عند هذا، وإنما سيمتد ليشمل إنكار أن يكون البشر سواسية لهم الحقوق نفسها. تقول الممثلة الأميركية أنجيلا جولي إنها اكتشفت أخيرا أن حقوق الانسان أكذوبة كبرى.
دفعت هذه الحرب كثيرين من الغرب وغيرهم إلى إنكار أن يكون للناس الحقوق نفسها، وأن الكرامة لجميع البشر، وهو إنكارٌ يتّسع تدريجيا، مفاده أن يكون الغرب سيد الخلق وله الكفاءة لأن يدعي مستقبلا  أنه راعي حقوق الإنسان التي راكمتها فلسفته وأفكاره.
هل ينظر إلينا الغرب، بوصفنا بشرا، نستحق الحد الأدنى من الحقوق، بما فيها الحقوق الأولية: الحق في الحياة والحق في الصحة والأمان؟ ترتفع الدعوات الملحّة إلى ضرورة مراجعة كل تلك الأفكار التي تراكمت، والتي صوّرت لنا الغرب معلما ألمعيا يقدّم دروسه لبقية شعوب العالم عن العقلانية والكونية وحقوق الإنسان. اهتزّت هذه الصورة، ولم تعد مقنعة كثيرا. يجري الجدل المحتدم حاليا بين أطروحتين: تفيد الأولى ضرورة القطع مع أفكار هذا الغرب والانثناء مجدّدا في مملكة الهوية والخصوصية. أما الأطروحة الثانية فهي نقد ادّعاءاته، وبيان نفاقه فحسب، أي تملك أطروحاته وبيان مخالفة الغرب ذاته لها. وبقطع النظر عن مآل هذا الصراع، فإن الخسارة الجسمية قد حلّت بصورة الغرب المعلم.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.