الحرب الأهلية الإثيوبية .. مساراتها واحتمالاتها
تستمر المعارك التي تخوضها قوات الحكومة الفدرالية الإثيوبية، والقوات المتحالفة معها في الشمال، لصدّ مقاتلي "جبهة تحرير شعب تيغراي" وحلفائها، بعد أن حقّق هؤلاء تقدّمًا كبيرًا في اتجاه العاصمة أديس أبابا خلال الأسابيع الماضية. وكانت الحكومة الإثيوبية أعلنت، في وقت سابق، التعبئة الشاملة، وفرضت حالة الطوارئ في البلاد مدة ستة أشهر، بعد الاختراقات التي حقّقها المتمرّدون، خصوصًا في جبهة أمهرة وعفر اللتين شهدتا خروج مدن وبلدات عديدة من أيدي القوات الحكومية. في المقابل، تسير جهود تسوية الأزمة ببطء شديد، وسط مخاوف حقيقية من أن تدخل البلاد في حربٍ أهليةٍ طويلةٍ قد تسفر عن انهيار الدولة، والتي سيكون لها تداعيات كبيرة على منطقة القرن الأفريقي ووادي النيل؛ نظرًا إلى أهمية البلاد وثقلها الديموغرافي.
المشهد الميداني
اندلعت الحرب في إقليم تيغراي، أقصى شمال إثيوبيا، على الحدود مع إرتيريا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بعد شهور من التوترات بين حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير شعب تيغراي؛ على خلفية إصرار حكومة إقليم تيغراي على إجراء الانتخابات في الإقليم، خلافًا لرغبة الحكومة الفدرالية التي أجّلت الانتخابات العامة في البلاد مرتين بسبب تفشّي وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19). وقد عدّت الحكومة الفدرالية هذا التوجّه غير دستوري، وردّ الإقليم بسحب اعترافه من حكومة أديس أبابا على أساس أنّ ولايتها الدستورية قد انتهت. وبعد ذلك، اجتاحت القوات الإثيوبية، مدعومةً بقوات من إرتيريا المجاورة، المدن الرئيسة في الإقليم بما فيها العاصمة مقلي، وقد وعد آبي أحمد حينها بأن العملية لن تدوم أكثر من بضعة أسابيع. وبالفعل، أعلنت الحكومة انتصارها في الحرب، وهزيمة الجبهة بعد شهر فقط من إطلاق حملتها. لكن مقاتلي "التيغراي" الذين انسحبوا في بداية الحرب أعادوا جمع قوّاتهم وشنّوا هجومًا مضادًا في حزيران/ يونيو 2021 استعادوا خلاله السيطرة على معظم أراضي الإقليم؛ ما أجبر القوات الفدرالية على الانسحاب، بعد وقوع نحو عشرة آلاف جندي في الأسر. وقد رافق هذا التقهقر العسكري للجيش الفدرالي اتهاماتٍ دولية بوقوع انتهاكات واسعة ارتكبتها قوات الحكومة إلى جانب القوات الإريترية؛ ما أضرّ بصورة آبي أحمد الحائز جائزة نوبل للسلام. ولم تكتف جبهة تحرير شعب تيغراي باستعادة أراضيها، بل عمدت إلى نقل المعركة إلى إقليمَي عفر شرقًا وأمهرة جنوبًا؛ بهدف فكّ الحصار المفروض على الإقليم من جميع الاتجاهات، وتهيئة بيئةٍ تسمح بإدخال المساعدات للمتضرّرين من النزاع، بحسب زعمها.
أعلنت جبهة تحرير شعب تيغراي تحالفها مع "جبهة تحرير أورومو"، إلى جانب ثماني قوى أخرى، وتشكيل "الجبهة المتحدّة الجديدة للقوات الفدرالية الإثيوبية".
وفي تطوّرٍ لافت، أعلنت جبهة تحرير شعب تيغراي تحالفها مع "جبهة تحرير أورومو"، إلى جانب ثماني قوى أخرى، وتشكيل جسم سياسي عسكري أطلقت عليه اسم "الجبهة المتحدّة الجديدة للقوات الفدرالية الإثيوبية". ويهدف التحالف الجديد إلى إسقاط حكومة آبي أحمد. وبالفعل، تمكّن مقاتلو الجبهة وحلفاؤها من السيطرة على عدة مدن استراتيجية في إقليمَي أمهرة وعفر قبل أن يتمكّن الجيش الفدرالي وحلفاؤه من صدّهم. في المقابل، حثّ آبي أحمد الإثيوبيين في رسالة نشرها على "فيسبوك"، على استخدام "كل سلاح ممكن لمواجهة جبهة تحرير شعب تيغراي" وحلفائها، مردّدًا الدعوة التي أطلقتها حكومة أمهرة المحلية لتعبئة السكان من أجل الدفاع عن أراضيهم. وتجري عمليات كرٍّ وفرٍّ في ثمانية مواقع على الحدود بين أقاليم أمهرة وعفر وتيغراي، في وقت قُطعت فيه الاتصالات وشبكة الإنترنت في كل مناطق المواجهات. وتتزايد وتيرة القتال للسيطرة على الطرق الاستراتيجية على طول جبهات إقليمَي أمهرة وعفر، وتمتد إلى تخوم محافظة شوا، حيث صدّت قوات الحكومة محاولات جبهة تحرير شعب تيغراي السيطرة على مدينة ذملي في إقليم عفر، والتي تعبرها الطريق الحيوية الرابطة بين جيبوتي وأديس أبابا.
انهيار استراتيجية آبي أحمد
جاء آبي أحمد إلى السلطة عام 2018، ببرنامجٍ هدفه تعزيز مسار التنمية والازدهار الاقتصادي الذي كانت تشهده البلاد، وبمشروع يسعى إلى تجاوز النظام السياسي القائم على نوع من الفدرالية الإثنية، التي أسّس لها رئيس الوزراء السابق، ميلس زيناوي، باعتبار أنّ هذا النظام يُضعف الدولة ويُحْدث انقسامات، وركّز بدلًا من ذلك على الحاجة إلى الاندماج الوطني، وإنشاء دولة مركزية، وحزب سلطة، وهوية وطنية جامعة لكل الإثيوبيين. لكن أحمد لم يفشل في تحقيق أي من هذه الأهداف فحسب، بل أدخل البلاد في صراع مرير بات يهدد وحدتها الترابية.
تزايد ميل آبي أحمد إلى استخدام القوة للتعامل مع التحدّيات التي تواجهه، بعد أن ضمن فوزه بولاية جديدة في الانتخابات العامة التي أجريت أواخر حزيران 2021
وتزايد ميل آبي أحمد إلى استخدام القوة للتعامل مع التحدّيات التي تواجهه، بعد أن ضمن فوزه بولاية جديدة في الانتخابات العامة التي أجريت أواخر حزيران/ يونيو 2021، فأقرّ زيادة كبيرة في حجم الجيش، وتباهى بقدرته على تجنيد مليون جندي لصدّ الهجوم الواسع الذي شنّته جبهة تحرير شعب تيغراي حتى تستعيد سيطرتها على الإقليم. وعلى الرغم من تأكيد حكومته أنّها تخوض معركة ضد الجبهة وليس ضد التغيراويين، فإنّ آبي أحمد فرض سياسة حصار خانق على الإقليم برمّته لتقويض حكم الجبهة، شملت منع المساعدات الإنسانية، وارتكاب انتهاكات واسعة بحق المدنيين، على نحوٍ جعل الأوضاع الإنسانية صعبةً في إقليم تيغراي. جاءت النتائج عكسية، حيث شعر السكان بأنهم يتعرّضون للإبادة، على الرغم من أنّ هدف الحصار كان دفع المدنيين إلى الانقلاب على الجبهة وإضعاف حاضنتها الشعبية.
ومع الاستمرار في حصار الإقليم، وتصاعد الاتهامات الأميركية والغربية لنهج الحكومة الفدرالية والانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها قوّاتها، أخذ آبي أحمد يسعى إلى الحصول على دعم دولي وإقليمي من دولٍ لا تربطها بالغرب علاقات جيدة، بما في ذلك الحصول على مساندة لتطوير القدرات العسكرية لقوات الحكومة الإثيوبية. وقد وقَّعت إثيوبيا في تموز/ يوليو 2021 اتفاقية تعاون عسكري في أديس أبابا مع الحكومة الروسية، واشترت الحكومة الإثيوبية معدّاتٍ عسكريةً تركيةً بقيمة تقارب الـ 52 مليون دولار في أثناء زيارة آبي أحمد أنقرة، في آب/ أغسطس 2021، وتضم طائرات تركية مسيّرة من طراز "بيرقدار تي بي 2". وقد اعترف زعيم جبهة تحرير شعب تيغراي، دبرصيون جبر ميكائيل، بأنّ دخول سلاح الجو والطائرات المسيّرة دفع الجبهة إلى الانسحاب السريع من الإقليم في الجولة الأولى من الحرب.
أدّت الحرب، اقتصاديًا، إلى تدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية في أقاليم مثل أمهرة وعفر وتيغراي، وشلّت الاقتصاد الوطني
أدّت الحرب، اقتصاديًا، إلى تدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية في أقاليم مثل أمهرة وعفر وتيغراي، وشلّت الاقتصاد الوطني. وبعد ازدهارٍ اقتصادي كبير شهدته البلاد في السنوات القليلة التي سبقت تفشّي وباء فيروس كورونا، تواجه إثيوبيا حاليًا انكماشًا اقتصاديًا كبيرًا، وارتفاعًا في أسعار المواد الغذائية، وتدهورت قيمة العملة الإثيوبية (البر) على نحوٍ بعيد في الشهور الأخيرة، بسبب الحرب من جهة وتداعيات تفشّي الوباء من جهة ثانية، والجفاف الذي ضرب البلاد من جهة ثالثة. وأدّى العجز الحكومي والفشل الإداري إلى زيادة الانحدار الاقتصادي، وساهم الإنفاق الكبير الذي رافق الانتخابات العامة الأخيرة بغرض كسب الأصوات في مفاقمة الوضع الاقتصادي. لكن التحدّي الأبرز الذي أفرزته الحرب يبقى متمثّلًا في الشرخ الحادّ الذي أصاب نسيج الدولة، والذي بات يهدّد تماسك البلاد ووحدتها الترابية.
مصير الوساطات الخارجية
انطلقت مساعي الوساطة لاحتواء النزاع في تيغراي مع تفاقم الوضع الإنساني في الإقليم، فقد عيّن الاتحاد الأوروبي، في شباط/ فبراير 2021، وزير خارجية فنلندا، بيكا هافيستو، مبعوثًا خاصًا لحلّ النزاع، وعيّنت الإدارة الأميركية، في نيسان/ أبريل 2021، السفير جيفري فيلتمان مبعوثًا خاصًا للقرن الأفريقي. ومع وصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض، في كانون الثاني/ يناير 2021، تزايدت الانتقادات الأميركية المباشرة لدور الحكومة الفدرالية في الصراع في إقليم تيغراي، إذ نددت واشنطن بتدهور الأوضاع الإنسانية في الإقليم، ومارست ضغوطًا لإخراج القوات الإريترية والمليشيات الأمهرية منه، قبل أن تلجأ إلى فرض عقوبات على الحكومة الإثيوبية في أيار/ مايو 2021. ومع احتدام المواجهات في الأسابيع الأخيرة، حضّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، كل الأطراف، على وقف القتال والعودة إلى الحوار، ودعا، خصوصًا، قوّات جبهة تحرير شعب تيغراي إلى وقف زحفها في اتجاه العاصمة أديس أبابا. وأجرى المبعوث الخاص للقرن الأفريقي، فيلتمان، محادثات في أديس أبابا من أجل الوساطة لوقف الحرب المستمرة منذ عام، من دون أن يحقق أيّ تقدّم في هذا الاتجاه.
دخلت إثيوبيا مرحلةً من عدم الاستقرار بعد أن كانت تمثّل نموذجًا للتنمية والازدهار الاقتصادي في شرق أفريقيا
وعيّن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، أواخر آب/ أغسطس 2021، الرئيس النيجيري الأسبق، أوليشيغون أوباسانجو، ممثلًا أعلى للاتحاد في القرن الأفريقي، مع التركيز خصوصًا على النزاع في إقليم تيغراي، بعد أن فشلت الوساطات الغربية والأميركية؛ لأنّ الحكومة الفدرالية الإثيوبية رأت أنّ هذه الوساطات غير محايدةٍ في الصراع. وزار أوباسانجو إقليمَي أمهرة وعفر المتأثّرَين بالصراع بعد تمدّد القتال نحوهما، حيث التقى بحكّام الإقليمَين لبحث مبادرته لحلّ الصراع. وتتضمّن هذه المبادرة حشد دعم المجتمع الدولي للوساطة الأفريقية، وحثّ أطراف الصراع على الانخراط في حوار سياسي من دون أيّ شروطٍ مسبقة، ووقفًا شاملًا وفوريًا وغير مشروط لإطلاق النار، وللأعمال العدائية التي تمارسها جميع الأطراف. وأقرّت المبادرة تأمين وصول المساعدات الإنسانية على الفور، ومن دون عوائق للمتأثرين بالصراع في مختلف المناطق، وضمان احترام القوانين الإنسانية الدولية وقوانين حقوق الإنسان والامتثال لها، فضلًا عن الدعوة إلى بدء حوارٍ فوري ومصالحة وطنية شاملة. لكن الوساطة الأفريقية تصطدم بتحدّيات كبيرة في ضوء إصرار الحكومة الفدرالية وحكومة إقليم أمهرة على استعادة الأراضي التي خسرتها أمام جبهة تحرير شعب تيغراي في إقليم أمهرة. في المقابل، تتمسّك الجبهة وحلفاؤها بمطلب إطاحة آبي أحمد.
الاتجاهات المحتملة للصراع
أمام تعثّر الجهود الدولية والإقليمية للوساطة، تبرز عدة سيناريوهات محتملة للصراع، وهي كالآتي:
(1): انتصار جبهة تحرير شعب تيغراي وحلفائها: ويعني ذلك دخول العاصمة، وإطاحة حكومة آبي أحمد، هذا الاحتمال قائم لكنه غير مرجّح. وفي حال تحقَّق، فإنه سيضع الجبهة وحلفاءَها أمام تحدّيات كبيرة في ضوء معارضة بقية المكونات العرقية، وفي مقدمتهم الأمهرة. ومن المرجّح في حال تحقّق هذا السيناريو، أيضًا، أن ينتهي التحالف بين الأورومو والتيغراي، اللتين جمعتهما الرغبة في إطاحة آبي أحمد، ما يعني مزيدا من عدم الاستقرار.
(2): الخروج الآمن لآبي أحمد من السلطة: ويعدّ هذا السيناريو الأفضل لتحالف المتمرّدين وفقًا لما نقلته وكالة أسوشيتدبرس عن الناطق باسم جبهة تحرير شعب تيغراي، يوهانيس أبراها، الذي قال "نحن نفضل انتقالًا سلميًا ومنظمًا ينتهي بتنحية آبي أحمد". لكن هذا السيناريو غير مرجّح، في ظل تمسّك أحمد بالسلطة، خصوصًا بعد الانتخابات الأخيرة التي حقق فيها حزبه فوزًا كبيرًا، وقد توجّه بنفسه إلى جبهات القتال، وظهر بالزي العسكري في أقليم عفر، حيث تقع أكبر قاعدة عسكرية جوية في إثيوبيا. ومنذ ذلك الوقت، نجح الجيش الإيثوبي باستعادة السيطرة على بلداتٍ عديدة في هذا الإقليم.
(3): إطاحة الجيش آبي أحمد: مع تصاعد موجة الانقلابات العسكرية في أفريقيا أخيرا، من المحتمل أن يقود الجيش انقلابًا ضد آبي أحمد، باعتباره مسؤولًا عن توريط البلاد في حرب أهلية مدمرة. وكان ضباط من الجيش قادوا عدة محاولات انقلابية ضدّه، آخرها جرى في منتصف عام 2020، إضافة إلى المحاولة الانقلابية التي وقعت في حزيران/ يونيو 2019، وأودت بحياة رئيس أركان الجيش الإثيوبي الجنرال سيري ميكونين وحاكم إقليم أمهرة. لكن الانقلاب في هذه الحالة لن يؤدي إلى حلّ الأزمة، بل سيزيدها سوءًا، في ضوء الانقسامات التي يواجهها الجيش نفسه، والتي تفاقمت بعد الهزائم الأخيرة أمام جبهة تحرير شعب تيغراي.
(4): استقرار خطوط القتال على وضعها الراهن: في ظل عجز الطرفين عن تحقيق نصرٍ حاسم، خصوصًا في ضوء تنامي الصراعات العرقية في البلاد، قد يتّجه إقليم تيغراي في هذه الحالة إلى المطالبة بحكم كونفدرالي أو حتى إعلان الاستقلال من طرف واحد.
بغضّ النظر عن السيناريو المحتمل، يبدو واضحًا أن إثيوبيا دخلت مرحلةً من عدم الاستقرار بعد أن كانت تمثّل نموذجًا للتنمية والازدهار الاقتصادي في شرق أفريقيا. ويعود هذا إلى تعقيدات الوضع الإثني في البلاد، والترسبات السياسية والتاريخية التي فجّرتها محاولة آبي أحمد تطهير مؤسسات الدولة من إثنية التيغراي التي حكمت إثيوبيا طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي سياسة بات من الواضح أن تكلفتها عالية.