الحربُ هي الحربُ

01 مارس 2022

(هانيبال سروجي)

+ الخط -

كُنّا نخالها قد انحسرت نهائيا عن هذا الجزء الحظيظ من العالم، الحرب، وقد باتت مقتصرةً على سكّان الأرض من الدرجتين الثانية والثالثة. وكنّا نحسبها قد انقرضت كلّيا في بلدان العالم المتقدّم والعالم الحرّ الذي قرّر أن يبقى سالما، آمنا، مطمئنا، مهما تقلّب وانقلب، فيما هو ينظر من علٍ إلى أحوال العالم السفليّ تموج وتميد.
لقد شهد القرنُ العشرون أشدّ الحروب دموية، فكان أن دُمّرت أوروبا تقريبا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث شمل الصراع الذي دام من عام 1939 إلى 1945 معظم مناطق الكرة الأرضية، مؤدّيا إلى إزهاق أرواح أكثر من 60 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية وحدها، أي ما يبلغ نسبة 3% تقريبا من سكّان العالم آنذاك، كان 50 مليوناً منهم من المدنيين. هذا إلى جانب حرب عالمية أولى لم تكن أقلّ فداحة مع مقتل 8.5 ملايين جندي، و13 مليون نسمة من المدنيين. ومَن يخطر بباله أن يُحصي حروب القرن العشرين التي تلت، مثل حرب الهند الصينية، والحرب العربية الإسرائيلية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحرب السوفييتية الأفغانية، والحرب الإيرانية العراقية، وحربي الخليج الأولى والثانية، وحرب البلقان الثالثة، إلخ، سوف يهلع حتما من عددها المخيف، حتى ليخال أنّ ناظرا إلى كوكب الأرض من بعيد، خلال المائة عام المنصرمة، لن يجد بقعةً واحدةً على اليابسة لم تطاولها الحرائقُ والانفجارات.
قيل إن العالم المتقدّم تعلّم الدرسَ مما جرى، وإن الدول الأوروبية باتت تضع السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان وحل النزاعات سلميا في أعلى قائمة أولوياتها. أما الترجمة العملية، فجاء مفادُها: من الآن فصاعدا، باتت الحروبُ تُجرى على أراضي الآخرين، هناك حيث تحتدم الصراعات بين المحاور ويُقاس منسوب القوة، تصفّى الحسابات وتدور الخلافات وتوقَّع الاتفاقيات. ومع ذلك، ثمة "مفاجآت" غير سارّة تحصل من حين إلى حين، كما يجري اليوم مع الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا ممّا يُقلق القارّة العجوز، ويوتّر العالم، ويُبكينا نحن الذين نفهم ما معنى حروبٍ لم يزل طعمُها المقيت حارقا تحت اللسان، بعد أن عشنا ونعيش يوميا ويلات معارك لا تني تشتعل هنا وهناك، كلّما هبّت نسمةٌ توقد الجمر النائم تحت الرماد.
ها هي آلة الحرب إذًا قد انطلقت. كلُ ما يرافقها من تصوّرات وتحاليل وتوقعات وتحذيرات وتهديدات وعرض عواقب ونتائج، لا يمكنه تمويه وجهها القبيح، إخفاء أنيابها المفترسة أو براثنها الحادّة الملوّثة بالدماء، فالحرب تبقى هي الحرب، مهما تنوّعت الظروف، لا شيء يبرّرها، لا فكرة، لا عقيدة، لا أيديولوجيا، لا فلسفة .. هي التي لا تني تزداد قباحة وهولا في عصر الصورة وانتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ازدادت حضورا وسفورا. أجل، الحرب هي الحرب، فدائما ثمّة مُعتدٍ ومعتَدى عليه، ثمّة جلادٌ وضحية، قاتلٌ وقتيل، قصفٌ ودماءٌ وتدميرٌ وقهرٌ ودموع. ثمّة نساءٌ تائهات لا يدرين إلى أين يتّجهن كي يحتمين، وصراخ أطفال مذعورين اغتُصبت طفولتهم، وجثث محترقة مطروحة في الطرقات، وعماراتٌ تُدكّ وتركع مبقورة البطون، وتقطيع أوصال مدن وقرى وشعوب، وقذائف تمطرها الطائراتُ على سكّانٍ عزّل آمنين، ودبابات تجتاح وتضرب وتقتلع وتدكّ. ثمّة حصار وتجويع وانقطاع كهرباء وماء وأمراضٌ وسرقاتٌ وتصفياتٌ جسدية.
الحرب هي الحرب. حين يتحوّل الإنسان إلى وحش وتنفلت الغرائز في أبشع حللها، حين ينكشف الغطاء مُظهرا أبشع ما في قاع البشر من ظلمةٍ وعفن وديدان. كنّا ندبّ على أربع. ثم انتصبنا. ثم مشينا. ثم احتللنا الأرض، وبدأناها حروبا لا تنتهي. منذ البدء، منذ أن غادرنا الجنّة ليقتل قابيل العامل بالأرض أخاه راعي الغنم هابيل، بسبب تفضيل الرب ذبيحة الأخير ورفضه قربان الأوّل، فكان أن "اغتاظ قابيل جدا وسقط وجهُه"، صارخا "لأقتلنّك" ..

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"