الحرام في غزة
كلما سمعت عن واقعة العثور على طفلٍ لقيط، وغالبا ما يكون ذلك أمام مسجدٍ أو دار للأيتام أو مستشفى، تذكرت للتو، وتطبيقا مباشرا لنظرية الارتباط الشرطي للروسي، بافلوف، رواية يوسف إدريس "الحرام" التي لمّا شاهدتها فيلما على شاشة التلفزيون، أبدت أمي وقتها تضامنها الكامل مع البطلة أو أم اللقيط، فاتن حمامة أو عزيزة كما اسمها في الرواية والفيلم. والواقع أن التضامن مع البطلة الضحية (عزيزة) كان في نهاية الفيلم بائسا، حيث تحولت شجرة الصفصاف التي تم العثور تحتها على جثة الطفل اللقيط إلى مزار للنساء الراغبات في الحمل، وكأن هذا العمل أو التقليد اعتراف ضمني بأن عزيزة ضحية، ولكنها امرأة ولود، فقد تعرّضت للاغتصاب وحملت سريعاً، ولم تستطع أن تخفي حملها بسبب مرض زوجها، فمن الطبيعي ألا يكون قادرا على معاشرتها. وقد عشنا مع عزيزة كل محاولاتها لإخفاء آثار جريمةٍ لم يكن لها يد فيها سوى فقرها وعوزها واشتهاء أطفالها حبّات البطاطا المسروقة من حقلٍ قريب، ولكن الفضيحة تكشفت على لسانها، بعد أن وضعت الطفل وحاولت إسكاته، فمات مخنوقا وماتت هي بسبب حمّى النفاس، حيث ولدت على قارعة الطريق تحت الشجرة بلا رعاية فمن الطبيعي أن تتعرّض لحمّى النفاس التي كانت السبب الأول لموت الأمهات في زمن مضى، ولكنها قبل أن تموت باحت بالسر، وهي تحت تأثير هلوسات الحمّى، وسمع بذلك كل أهل القرية الذين ساورتهم بعض الشكوك بنسائهم وبناتهم.
كالعادة، تذكّرت هذه الرواية بحذافيرها، بدقّة أوصافها وجمال سردها المتنوع ما بين الفصحى والعامية المصرية، وتذكّرت كذلك مشاهد الشريط السينمائي والشتائم التي كالتها أمي لمغتصب عزيزة تحت حاجة فقرها. تذكرت ذلك كله وأنا أتابع تفاصيل حادثة العثور على جثة لقيطة داخل حمّام مستشفى حكومي في غزة. وكانت الحادثة ملحقة بصور تقشعرّ لها الأبدان، وقد كال الشارع الغزّي الشتائم والنعوت، وطالب الخالق جل وعزّ بإنزال العقوبة والسخط على الأم الفاعلة، وأغفل أكثرهم الفاعل الشريك، سواء أكان هذا اللقيط الذي تعرّض للخنق قبل أن يُلقى في حمّام عام بذرة لمغتصب أم متقد شهوة، فالجريمة واحدة، أنه قد بذر بذرته في رحم امرأة تحمّلت نتيجة جريمته، حتى وصلت إلى هنا.
لا أفترض أن الجريمة فردية تتحمّل إثمها المرأة التي استطاعت أن تُخفي حملها في مجتمعٍ ضيق تسعة أشهر. ولكني أفترض أن المرأة التي حملت بهذه الطريقة قد تعرّضت لحماية مضطرّة ممن حولها، وربما تكون قد حملت سفاح قربى من أقرب الناس إليها، من شخصٍ كانت تأمنه وتتكشف أمامه، ولكنه رآها أنثى فاتنة، فوقعت الواقعة. وهنا تكاتف الجميع للتستر عليه، لا عليها حتى وضعت الطفل. وقد بيّنت تحرّيات أولية أنه تم وضعه خارج المستشفى، ثم أدخل بطريقةٍ ما إلى حمّاماته العامة بعد خنقه، بل تم وضع الجثة الصغيرة لثمرة خطيئةٍ في آلة ضخّ الماء، ما عجّل بكشف أمره.
قد تكون الجريمة بطريقة أخرى، أن الأم التي وضعته كره زوجُها إنجابها البنات وهدّدها بالطلاق، وهنا قرّرت أن تلد في البيت، وتخلصت من المولودة الأنثى التي قد تكون الخامسة أو السادسة في عائلةٍ تترقب المولود الذكر، ولكنها لم تعرف كيف تتخلّص من الجثة لتحتفظ بزوج آثم، ولذلك أرسلت من يضعه في حمّام عام.
جسّدت رواية "الحرام" الصادرة في 1959، بكل واقعية، جناية الفقراء على بعضهم بعضا، والتفاوت في الفقر الذي يتيح الظلم. وفي مجتمع فقير متداعٍ مثل مجتمع غزة تكتشف مقدار جناية الفقراء على بعضهم، وظلمهم بعضهم لبعض، الظلم الذي وقع على الأم التي خنقت رضيعها وألقته في حمّام عام، والظلم الذي وقع من ثورة الشارع عليها، من دون التفكير بأنها ضحية تصرّفت بغباء أو قلة حيلة، فما أكثر الحكايات الشبيهة المخفية التي يتم التستر عليها بذكاء، لأنها تحدُث في أحسن العائلات.