الحراك الاحتجاجي في سورية... هل بدأ يتشكّل إجماعٌ وطني على التغيير؟
مع التدهور المتسارع للاقتصاد السوري، واتخاذ النظام جملة من الإجراءات الهادفة إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، وعلى رأسها المحروقات، والمضي في سياسة تحرير الاقتصاد، تفجّرت احتجاجات شعبية غاضبة في محافظة السويداء، جنوب سورية، وراوحت فيها الشعارات المرفوعة بين رفض القرارات الاقتصادية الأخيرة والدعوة إلى تنحّي رئيس النظام السوري بشار الأسد. وقد شهدت محافظات دير الزور، ودرعا، والقنيطرة، وريف دمشق، وحلب، واللاذقية احتجاجات مماثلة، على نطاق أضيق، فضلًا عن حالة تململ واضحة بين السكان. وقد رفع المحتجون في السويداء ودرعا ودير الزور شعاراتٍ مماثلة لشعارات ثورة 2011، إلا أنهم حمَّلوا منذ اليوم الأول الأسد وعائلته المسؤولية الكاملة عن معاناتهم وعن المصير الذي آلت إليه البلاد. وعلى الرغم من أن النظام كان واعيًا لأثر قراراته الاقتصادية في المستوى المعيشي لعموم السكان، والذي تدهور على نحو كبير خلال السنوات الأخيرة، فإنه قرّر المضي فيها، نظرًا إلى الضغوط الكبيرة التي يواجهها مع تلاشي الموارد ونفاد احتياطات الخزينة العامة.
خيبة الأمل في نتائج التطبيع العربي
أدّت النتائج المتواضعة للانفتاح العربي على النظام، وعودته إلى شغل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، إلى خيبة أمل كبيرة بين عموم السكان الواقعين تحت سيطرته، بما في ذلك المؤيدون، الذين توقعوا أن تترافق علاقات النظام العربية مع انفراج الوضع الاقتصادي خصوصًا بعد القمة العربية التي احتضنتها جدة في أيار/ مايو 2023، لكن سلوك النظام الذي ترجم رغبة بعض الدول العربية في تطبيع علاقاتها معه على أنها "نصر"، تحقّق بشروطه، ورفضه تقديم أي تنازلاتٍ تساعد في إنجاح مسعى التقارب العربي معه، انتهى إلى مجرّد توقّع المعونات، والخيبة من عدم وصولها. وقد أدّت عدم جدّية النظام في التعامل مع المبادرة العربية، وتعامله باستخفاف مع مطالبها، مثل ضبط صناعة المخدّرات وتهريبها وإعادة ألف لاجئ سوري من الأردن، ورفضه التعامل بإيجابية مع الأمم المتحدة في قضية المعابر ودخول المساعدات الإنسانية، أدّى ذلك كله إلى مراجعة بعض الدول العربية علاقتها الدبلوماسية معه أو تجميدها. وقد انعكس ذلك بوضوح على الوضع الاقتصادي الذي أخذ يتدهور بسرعة، فانهار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، وبلغ التضخّم مستوياتٍ قياسيةً خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ إذ بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء.
بات أغلب السكان عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، بما في ذلك الغذاء والدواء
وساء الوضع أكثر مع توجّه الحكومة إلى رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، مثل المحروقات، لتمويل زيادة الرواتب التي باتت قيمتها تراوح بين 10 و15 دولار شهريًا للموظف الحكومي. وبناء عليه، ازداد التذمّر من اعتماد الحكومة سياسات "الجابي" مع عموم السكان وجامع "الإتاوات" مع التجار ورجال الأعمال لتوفير التمويل الضروري لاستمرار عمل الحكومة. وكان لافتًا أن احتجاجات السويداء جاءت بعد أيام من فشل اجتماع لجنة الاتصال العربية الموكلة بمعالجة ظروف الانفتاح العربي على سورية في القاهرة، تعبيرًا عن مدى خيبة الأمل في تعامل النظام مع التوجه العربي لحل الأزمة، وانسداد الأفق أمام أي تغيير في الوضع القائم.
النقمة على سياسات النظام الاقتصادية
نتيجة توقّف كل قطاعات الإنتاج الرئيسة بعد سنواتٍ من الحرب، ثم توقف اقتصاد الحرب ذاته، وتقلص المساعدات الخارجية التي كان النظام يتلقّاها من حلفائه، تسارع انهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي في السوق الموازي، خلال الشهور الأخيرة، فقد بلغ 7,500 ليرة سورية أمام الدولار في 19 نيسان/ أبريل 2023، ووصل إلى 10,350 ليرة في 15 تموز/ يوليو 2023، ثم بلغ 14,750 ليرة في 28 آب/ أغسطس 2023، وعلى هذا، فقدت الليرة السورية خلال أربعة شهور 50% من قيمتها. وقد جاء مسار الليرة التراجعي معاكسًا مسار الانفتاح العربي على النظام، بدءًا من موافقة السعودية على إعادة فتح السفارات بين البلدين، وصولًا إلى استعادة النظام مقعد سورية في جامعة الدول العربية، وانتهاء بحضور الأسد قمّة جدّة العربية.
اعتمد النظام السوري خلال السنوات الماضية سياسة مالية متشدّدة، هدفها ضبط حركة السيولة النقدية داخل البلاد، لمنع تدهور العملة المحلية على نحو حادّ، عن طريق تقليص حجم السحوبات من الحسابات البنكية أو منع نقل الليرة السورية بين المحافظات مباشرة، أو عبر الحوالات بكميات كبيرة. كما سعى إلى حصر عمليات بيع العقارات والسيارات وشرائها من خلال المصارف، نظرًا إلى السيولة الكبيرة التي يتطلّبها إجراء هذه المعاملات، كما حدّ من استيراد السلع من الخارج، وصمم آلية صارمة لمنح رخص الاستيراد. وقد اتبع هذه السياسة ابتداءً من نهاية عام 2019، تحت ضغط الأزمة المصرفية في لبنان، وضياع مليارات الدولارات من الودائع السورية في المصارف اللبنانية. وقد تعمقت هذه السياسة بعد صدور قانون قيصر عام 2020 الذي فرض عقوباتٍ أميركية قاسية على النظام وعلى من يخرقها. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة، إلى حد ما، في منع انهيار العملة السورية، فإنها أدت إلى تجميد الحركة الاقتصادية في البلاد.
تباينت الاحتجاجات الحالية عن السابقة التي شهدتها السويداء في عامي 2018 و2020 من جهتين: الأولى اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها والثانية تركيزها انتقادها للرئيس وزوجته
ونتيجة تناقص موارده، اتّبع النظام سياسات "جباية" و"سطو" على أموال كبار التجار ورجال الأعمال، نفّذها ما يسمى "المكتب السرّي" في القصر الجمهوري، بالتنسيق مع الفرع الداخلي التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وشملت هذه السياسات رجال أعمال ظلّوا سنوات مرتبطين بالنظام وشبكاته الزبائنية، مثل رامي مخلوف، ومحمد حمشو، وحسام قاطرجي، وخضر طاهر (المعروف بأبي علي خضر). وجرى تعميم هذه السياسة لاحقًا على بقية التّجار مع ازدياد الحاجة إلى السيولة، ووصلت حتى إلى أصحاب الشركات الخاصة المتوسطة؛ ما اضطرّ عديدين منهم إلى إغلاق أعمالهم ومغادرة البلاد. وقد أدّى مجلس اقتصادي يعمل داخل القصر الرئاسي، تترأسّه أسماء، زوجة بشار الأسد، دورًا مهمًا في إدارة هذه السياسات الاقتصادية؛ ما أثار ردود فعل غاضبة بين السوريين، خصوصًا في المناطق المعروفة بتأييدها للنظام.
ونتيجة للزلزال الذي ضرب شمال سورية في شباط/ فبراير 2023، اضطرّ النظام إلى التراجع عن السياسات المالية والنقدية المتشدّدة، نظرًا إلى حالة الركود التي أصابت الاقتصاد السوري حتى قبل الزلزال، وتفاقمت بعده، حيث رفع النظام الكثير من القيود المالية على حركة النقد داخل البلاد. ونتيجة العوائد الاقتصادية المحدودة لسياسة الانفتاح العربية، وتنامي الضغوط الإيرانية لاسترداد الديون المترتبة على النظام، وتنفيذ الاتفاقات الموقعة معه، اضطر إلى تيسير الاقتراض ومنح المزيد من التسهيلات الائتمانية لرجال الأعمال لتحريك عجلة الاقتصاد، كما لجأ إلى سياسة التمويل بالعجز، ورفع الدعم عن المحروقات لزيادة رواتب موظفي القطاع العام، بالتوازي مع مساعيه لرفع القيود المالية وتنشيط الصناعة المحلية، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الاستيراد، واستنزاف القطع الأجنبي. كما اتجه إلى إلغاء المراسيم التشريعية القاضية بتجريم التعامل بغير العملة السورية، التي صدرت عام 2020، وذلك بسبب حاجته الماسة إلى العملة الصعبة. وجاء الإعلان عن هذه السياسة الجديدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الشعب دعت إليها الحكومة في 24 تموز/ يوليو لمناقشة الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي.
تفجّر الاحتجاجات
أدّت السرعة التي نفذ بها النظام إجراءات التيسير الكمّي ورفع الدعم عن سلع أساسية، إلى تدهور سريع للوضع الاقتصادي، ونتيجة لذلك تصاعد الغضب الشعبي الذي عبّر عن نفسه بوضوح في محافظة اللاذقية، وغيرها من مناطق الساحل، حيث صدرت أولى الانتقادات للأوضاع المعيشية المتردّية من داخل حاضنة النظام تحديدًا، وركّزت على دور عقيلة الرئيس في إدارة اقتصاد البلاد. واعتبارًا من 20 آب/ أغسطس، تحوّلت محافظة السويداء إلى مركز للاحتجاجات المطلبية، وسرعان ما رفعت مطالب سياسية، وذلك إثر نجاح النشطاء في فرض إضرابٍ عام في المحافظة، مقدّمةً نموذجًا مشرقًا لمشاركة النساء في المظاهرات الشعبية إلى جانب الرجال.
تباينت الاحتجاجات الحالية عن الاحتجاجات السابقة التي شهدتها السويداء في عامي 2018 و2020 من جهتين: الأولى اتساع نطاقها، وانخراط مختلف الفئات والقوى الاجتماعية فيها، بمن فيهم مشايخ العقل، الزعماء الدينيون للطائفة الدرزية، الذين درجوا على تبنّي مواقف محايدة من الصراع أو مؤيدة للنظام ومواقفه، ساعدت سابقًا في تهدئة الفئات المحتجّة. والثانية تركيز الاحتجاجات انتقاداتها على شخص رئيس النظام وزوجته. وقد لوحظ أيضًا غياب الدور الروسي الذي درج على التدخل وسيطًا بين النظام وقيادات الحركة الاحتجاجية في السويداء.
ما زالت الحاجة ملحّة إلى تقديم نماذج أكثر تمثيلًا للمجتمع السوري في مناطق المعارضة التي لم تقدّم بديلًا جذابًا
حتى الآن اكتفى النظام في تعامله مع احتجاجات السويداء بالتلويح باستخدام القوة، والتحريض على المحتجّين بذرائع الطائفية والعمالة والخيانة، كما أرسل المحافظ للتفاوض مع الشيخ حكمت الهجري، أحد مشايخ العقل. جاء هذا التعامل اللين؛ لأن النظام يخشى المسّ بصورته التي دأب على رسمها بوصفه حامي الأقليات الدينية، بخلاف تعامله مع محافظاتٍ أخرى شهدت احتجاجات مماثلة مثل درعا، حيث سجلت حوادث إطلاق نار، كما أبدت أجهزة الأمن السورية استعدادًا واضحًا لقمع أي مظاهرة في المحافظات الأخرى. وفي اللاذقية، كثف النظام مساعيه لكشف مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها "حركة 10 آب"، وسعى إلى عزل الأصوات المنتقدة، عبر التهديد والاعتقال، واستثارة مخاوف العلويين من عودة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وغيرها من التنظيمات المتطرّفة، لإسكات الأصوات المعارضة واحتواء أي دعوة إلى الاحتجاج والتمرّد.
خاتمة
على الرغم من أن النظام لن يتردّد في استخدام العنف، إذا اضطر، حتى ضد قاعدة دعمه التي قاتل بها، إلا أن هذا الخيار لن يكون اللجوء إليه سهلًا، خوفًا من حصول تصدّعات داخل نواة النظام الصلبة، كما أنه غير قادر على تقديم حلول اقتصادية وتلبية مطالب المحتجّين، أو شراء سكوتهم في ظل محدودية موارده، ووصول التطبيع مع العرب إلى طريقٍ مسدودة، وعجز إيران وروسيا عن تقديم المساعدة. وبناء عليه، تبدو خيارات النظام محدودةً في التعامل مع الاحتجاجات المتنامية التي لم تعد محصورةً في المناطق المعروفة بمعارضتها له، مثل درعا ودير الزور وغيرهما، بل باتت تحصل في مناطق كانت محايدة (مثل السويداء) أو تمثل معاقل رئيسة لدعمه (مثل منطقة الساحل التي تضم محافظتي اللاذقية وطرطوس). وأكثر ما يقضّ مضجع النظام هو بداية تشكل إجماع وطني بين السوريين على ضرورة التغيير ورحيله، مع تحميله مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها البلاد.
في بداية الثورة، نجح النظام في تعميق الانقسام بين السوريين على أسس سياسية وطائفية، من خلال تقديم نفسه حامي الأقليات، مستفيدًا من فشل المعارضة في تقديم رؤية واضحة للتغيير، وصعود تيارات متطرّفة. لكن بدا أن السوريين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يرون أن التغيير ضرورة، وأن مصلحتهم فيه مباشرة، بعد أن وحّدهم الفقر والجوع وانعدام الأمن، وبعد أن سقطت أطروحة أن النظام انتصر، وأن الوضع قابل للاستمرار، من دون الحاجة إلى حلّ سياسي، ومن دون تقديم تنازلاتٍ يحاول النظام جهده تجنّبها، لأنه يرى فيها نهايته.
وما زالت الحاجة ملحّة إلى تقديم نماذج أكثر تمثيلًا للمجتمع السوري في مناطق المعارضة التي لم تقدّم بديلًا جذابًا، وإلى حوارات تهدف إلى استعادة الثقة واللُّحمة بين جميع أطياف المجتمع السوري، وإلى قيادة سياسية منفتحة على جميع هذه الأطياف.