الجيوستراتيجيا والخبز والعرب … وحرب الروس الأوكرانية
لم تدخل الحرب الروسية الأوكرانية سجلات التاريخ الدولي فقط، بل دخلت أيضاً البيوت العربية كلها، لأنها، لضرورات الاستراتيجية، أثرت في أسعار الخبز العربي والقفّة العربية والمائدة العربية، فهي أوقفت سلسلة التداول، باعتبار أن الروس والأوكرانيين أهم مزودين للدول العربية، على طول خريطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالقمح. وقد وجد العالم العربي نفسه في فخ السوق الدولية التي أعادت ترتيب قيمها على أساس الحصول على هذه المادة الحيوية، بما تسمح به الجبهة في شرق أوروبا.
والأزمة الغذائية التي حشرت الدول العربية في زاوية حادّة هي انعكاس سياسي لقرارات الحرب، تكشف، في الوقت نفسه، الترابط العضوي بين التوجّه السياسي العربي والقرار الدولي، ذلك أن الأمن الغذائي الذي لا يمكن فصله عن السيادة الغذائية التي طرحت نفسها بقوة، المبني على الأسواق الدولية، أمن ظرفي، ومحدود في الزمان والمكان. ويعرّي في الواقع التبعية الغذائية وغياب سياسة طويلة الأمد على المستوى الفلاحي، التمكّن من امتلاك استقلالية القرار الغذائي.
إلى ذلك، لا ننسى أن هذه المعضلة بدأت تفرض نفسها منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي بدأت بانخفاض المساحات المخصّصة للزراعة (أقلّ من 20%) ورافقتها سياسة الدعم العمومي للمواد الأساسية، والتي ما زالت تلقي بثقلها على الحكومات، بين الخضوع لمقتضياتها أو إطلاق انتفاضات الشعوب عند رفعها!
الفضاء العربي الذي تآلف طوال تاريخ العرب المعاصر مع "انتفاضات" الخبز، من المغرب غرباً إلى لبنان شرقاً، أصبح عليه أن يفكر استراتيجياً في الموضوع، بعد أن وجدت الشعوب نفسها وسط ثلاثية صعبة للغاية، على حد تعبير عالم الجغرافيا، والاقتصادي العامل في "مختبر الديناميات الاجتماعية وإعادة تشكيل الفضاءات العمومية"، رولان رياشي، تتمثل في ثلاثة عوامل "ترفع من منسوب الأزمات الاجتماعية، وهي السلطوية الحكومية، والنيوليبرالية، وتغيرات المناخ، التي لها تأثير قوي على الموارد المائية".
بنت الدول العربية مواقفها على تقديراتٍ تميل نحو استقلالية القرار، مع الحفاظ على الشراكات الاستراتيجية المعروفة
إضافة إلى الغذاء، والذي يعدّ أحد أهم الانشغالات حالياً، هناك التغيرات الاستراتيجية التي وجدت دول المنطقة نفسها داخلها. وفي هذا السياق، لا يمكن أن نغفل أن العالم العربي فاجأ كثيرين بمواقفه، فقد اعتادت الدول في المنطقة التعبير، بشكل شبه عفوي وتلقائي، عن انخراطها في المنطق الأميركي خصوصاً، والغربي عموماً، كلما كان هناك موقف يتطلّب تحديد السياسات العربية. وهو ما لم يحصل في الحالة القائمة، وبنت الدول العربية مواقفها على تقديراتٍ تميل نحو استقلالية القرار، مع الحفاظ على الشراكات الاستراتيجية المعروفة، سواء في تصريف المواقف المتخذة أوروبياً وأميركياً بخصوص العقوبات، والابتعاد عن الموقف الروسي بخصوص سوق النفط (أوبك +)، وإن كانت هناك دول تعتبر نفسها حليفاً غير مشروط لموسكو، منها سورية. وعلى هذا المستوى، اتخذت الدول الأخرى المواقف من زاوية الحفاظ على مصالحها.
وقد اعتبر محللون كثيرون (منهم العاملون في إطار ESA Business School الذين نظموا ندوة كبيرة عن عواقب الحرب الأوكرانية على الشرق الأوسط) أن الحرب سرّعت من "التطورات الجيوسياسية التي سبقتها"، في ما يخصّ الاصطفاف مع الغرب بشكل تلقائي! وفي السياق ذاته، برزت هذه التوجهات الاستقلالية، إذا شئنا القول، بشكل كبير، وزاد وضوحها بسبب الحرب التي سرّعت التاريخ في المنطقة.
ولعل تلخيص هذا الفاصل التاريخي الذي يجري أمام أعيننا هو القول إن المنطقة لم تخرج تماماً من دائرة النفوذ الغربي، ولم تدخل تماماً في الدائرة الروسية المقابلة. وبلغة أخرى، نعيش إعادة تشكّل إقليمي، ميزته حصول ما لم يكن متوقعاً، ومنه خفوت المواجهات العسكرية الأهلية أو غير الأهلية في بعض الجبهات. إلى جانب ذلك، حصلت عملية إعادة التكوين، على جبهاتٍ دبلوماسية فاجأت كثيرين، ومن ذلك التقارب التركي الإماراتي السعودي المصري. أما في شمال أفريقيا، فقد ظهر واضحاً أن الخلافات المغاربية فتحت شهية فرنسا للحلم بدور "الضابط الإقليمي" للإيقاع السياسي! في الوقت ذاته الذي دخلت فيه العلاقات المغاربية حالة منطقة "انحسار بنيوي"، ربما زادت الحرب من حدّته لأسباب جيوستراتيجية، وانفتاح الملعب على كل الممكنات.