الجمهورية الإسلامية تستخدم "تقنية الحِداد" لإصلاح سمعتها
شهدتْ جنازةُ الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، الذي لقي حتفه بشكلٍ مأساوي في حادث تحطّم مروحية، تدفّقاً كبيراً للحزن من عشرات آلاف المشيّعين. وقد قاد صلاة الجنازة المُرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في طهران، حيث تميّزت بمراسم دينية تقليدية وعروض عميقة من الحِداد الوطني. حضر الحفل كبارُ المسؤولين، بما في ذلك قادة الحرس الثوري وشخصيات رئيسة من الجماعات المُسلّحة المُتحالفة مع إيران، مثل حركة حماس وحزب الله. كما استضافت العاصمة الإيرانية عديداً من الوفود الأجنبية رفيعة المستوى، والتي جاءت لتقديم التعازي.
ومع ذلك، تحت سطح الحزن المُنظّم من الأجهزة الحكومية، بقيتْ الأجواء الداخلية مشحونةً بالتوتّر والانقسام. بعض المواطنين، ولا سيّما أولئك الذين تعرّضوا لقمع من الحكومة إبّان الاحتجاجات التي اندلعت على وقع وفاة مهسا أميني في عام 2022، أعربوا علناً عن ارتياحهم، بل وحتّى احتفالهم بوفاة الرئيس، وذلك لأنّ فترة ولايته اتصفت بتكثيفِ دوريات شرطة الأخلاق واعتقال النساء لعدمِ الامتثال لقواعدِ الحجاب الإسلامي.
على الرغم من عدم وجود تقريرٍ رسمي يوضّح الظروف المُحيطة بحادثِ تحطّم المروحية، هنالك سؤال مُلحّ يفرض نفسه: من يستفيد من هذا الحادث المأساوي؟... تشيرُ الأنماط التاريخية إلى أنّ النظام الإسلامي في إيران قد يكون أكبر مستفيد من مثل هذا الحدث. فبعد الاستبعاد الواسع للإصلاحيين خلال الانتخابات الأخيرة، شهدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تآكلاً كبيراً في قاعدتها الانتخابية، إذ سجلت الانتخابات البرلمانية لعام 2024 انخفاضاً قياسياً في نسبة المشاركة إلى 41%، وهي الأدنى منذ الثورة الإسلامية في عام 1979. يستمر هذا الاتجاه الذي لُوحظَ في الانتخابات البرلمانية لعام 2020 بنسبةِ مشاركةٍ بلغت 42%، والانتخابات الرئاسية لعام 2021 بنسبةِ مشاركةٍ بلغت 48.8%. ويعتقدُ الخبراءُ السياسيون أنّ هذه الأرقام تعكسُ عدم الرضا عن النظام السياسي.
بعض الإيرانيين، سيّما الذين تعرّضوا لقمع من الحكومة إبّان الاحتجاجات على وفاة مهسا أميني في 2022، أعربوا علناً عن ارتياحهم، بل وحتّى احتفالهم بوفاة الرئيس
وفي هذه الأجواء، تعتبر السلطات الإيرانية هذا الحادث المأساوي فرصةً ذهبيةً لإعادةِ تأهيل سمعة النظام الإسلامي، التي تضرّرت بسبب قمع حركة "امرأة حياة حرّية"، التي انطلقت بعد وفاة مهسا أميني في عام 2022، كما يمكن أن يساعد على تجاوز نتائج الانتخابات الأخيرة، والتي أصبحتْ مُحرجة بسبب انخفاض نسبة المشاركة في التصويت.
والملفتُ أنّ كبارَ المسؤولين كانوا يَبدون متماسكين في مواجهةِ هذه المأساة. ففي اجتماع مع أُسَر أعضاء الحرس الثوري قبل العثور على ركّاب المروحية، طمأن آية الله خامنئي الشعب الإيراني بأنّه لن يكون هناك أيّ خلل في عملِ البلاد. لاحقاً، وأثناء استقباله رئيسَ مجلس النواب اللبناني نبيه بري، قال خامنئي: "هذا الحادث صعب علينا، ولكن بفضل الله سيستخدم الشعب الإيراني مثل هذه الأحداث المريرة فرصةً"، وأضاف: "بإذن الله، سيستفيد الشعب الإيراني ويستغلّ هذا الحادث".
لأنّي صحافي إيراني، تعلّمت قراءة ما بين السطور، يبدو أنّ هناك خطّة استراتيجية لاستغلالِ مراسم الجنازة لتحقيق مكاسب سياسية أوسع. وفي سياق الجمهورية الإسلامية، يختلفُ دورُ الممارسات الجنائزية بشكلٍ كبير عن أدوارها الدينية التقليدية. تهدف الممارسات التقليدية للحزن العام بشكلٍ أساسي إلى تسهيل التعبير عن المشاعر الجماعية، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وإظهار الدعم لذوي الموتى. في المقابل، تعملُ الطقوس الجنائزية المدعومة من الحكومة باعتبارها "تقنية الحِداد"، استراتيجيةً لتحقيق أهداف سياسية وأمنية خاصّة. وتؤكّد هذه الأنماط محاولة المؤسّسة السياسية التلاعب بالمشاعر العامة، وتعزيز سلطتها خلال فترات عدم الاستقرار السياسي.
وعلى مرّ التاريخ، جمعتْ الحكومات الشيعية، من العصر الصفوي إلى الجمهورية الإسلامية، قروناً من الخبرة في تنظيمِ مراسم الحِداد، مستلهمةً واقعة كربلاء. وقد أضفتْ هذه التاريخية قدرة كبيرة على استخدام تكنولوجيا الحِداد بفعّالية. وتمّ استخدام هذه التكنولوجيا بشكلٍ بارز خلال الثورة الإسلامية عام 1979، عندما استخدمَ معارضو الشاه مراسم الجنازة لتحريضِ المواطنين العاديين ضدَّ النظام الملكي. هذا، وفي إيران، البلد ذو الأغلبية الشيعية، ترتبط مراسم الجنازة بشكلٍ جوهري بإحياء ذكرى الإمام الحسين، حيث استخدمت القوى الثورية هذا المنبر لبناءِ سرديّةٍ لتصوير الشاه شريراً شيطانياً، وآية الله الخميني منقذاً.
كذلك، وبعد مرور سنوات على انتصار الثورة الإسلامية، استخدمت هذه التقنية للتعتيم على عديد من الأحداث المأساوية، التي تسلّط الضوء على ضعفِ أو تراجع كفاءات النظام. فبعد الثورة مباشرة، لعبتْ مراسم الحِداد دوراً حاسماً في الحفاظ ِعلى التضامن الاجتماعي والسياسي، لا سيّما في سياقٍ كثرت فيه الاغتيالات السياسية. كانت هذه التقنية الثقافية تعمل باستمرار على تقديس الشخصيات بعد وفاتها. على سبيل المثال، كان رئيس السلطة القضائية الإيرانية الراحل محمد حسيني بهشتي، الذي قُتِلَ في تفجير عام 1981، متّهماً من بعض السياسيين الراديكاليين بأنّه رأسمالي وموال للغرب. ولكن، بعد اغتياله، وجنازته التي حضرها كثيرون، تحوّل إلى بطلٍ وطني. حدثتْ ظاهرة مشابهة مع الرئيس الإيراني الأسبق محمد علي رجائي، الذي اكتسب بعد وفاته مكانةً مقدّسةً بوصفه رمزاً في خدمة الشعب. مرّةً، سألتُ صديقاً مسنّاً عمّا سمعته عن رجائي باعتباره أفضل رئيس للجمهورية في إيران، فأجابني الصديق بأنّ فترة ولاية رجائي رئيساً قتل في 30 أغسطس/ آب 1981، لم تستمرّ بالكاد شهراً، ما يجعل من الصعب تقييم أدائه. ومع ذلك، شكّلت الدعاية المدعومة من المؤسّسات الحكومية أفكارَ الأجيال الشابة مثلي، والذين لم يولدوا في ذلك الوقت، فنعتبر رجائي شخصية مُقدّسة. في المقابل، لم يكن أربعة رؤساء سابقين محظوظين مثل رجائي ورئيسي. فقد تمكّن هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، ومحمود أحمدي نجاد، وحسن روحاني، من البقاء وإكمال ولاياتهم الرئاسية، ولكنّهم أصبحوا منبوذين داخل النظام، وتعرّضوا لغضبِ القاعدة المحافظة للنظام الإسلامي. تلت وفاة رفسنجاني في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2017، في ظروفٍ مريبة، جنازةً حضرها كثيرون، ولكن، لم تُروّجها وسائل الإعلام الحكومية بحماسة.
إذن، يبرز هذا التلاعب بطقوسِ الحِداد الاستخدام البارع للحكومة لرأس المال الرمزي لتعزيز شرعيتها وسيطرتها، في إطارِ مشهدٍ اجتماعي وسياسي مُعقّد. دعمت الحكومة باستمرار وشجّعت تقديس الجنازات الكبرى للشخصيات التي تتماشى مع سياسات المُرشد الأعلى. بالنسبة لنظام إيران الشيعي، كانت المظاهرات الجماهيرية حاسمة منذ أن توافد الملايين إلى شوارع طهران للترحيب بالإمام الخميني الكبير في عام 1979 إبّان انتصار الثورة الإسلامية، كما حضروا جنازته بعد عشر سنوات. في عام 2020، شارك ما يُقدّر بمليون شخص في المسيرات الجنائزية للواء في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي قتل في ضربةٍ جويّة أميركية في بغداد. امتدّت هذه الجنازات إلى ما وراء حدود إيران، حيث أقيمت مراسم من الرابع إلى السابع من يناير/ كانون الثاني 2020 في عدّة مدن في العراق وإيران، بما في ذلك بغداد، وكربلاء، والنجف، والأهواز، ومشهد، وطهران، وقم، ومسقط رأسه كرمان. استخدمت الحكومة الإيرانية هذه الأحداث لتظليل الحوادث الكارثية مثل إسقاط طائرة ركّاب خلال ضربة صاروخية على قاعدة عسكرية أميركية في عين الأسد في العراق. يمكن اعتبار المراسم التي أقيمت تكريماً لرئيسي، والتي غطّتها وسائل الإعلام الإيرانية بشكل واسع في 22 من الشهر الماضي (مايو/ أيّار)، استمراراً لجنازة سليماني. قدّمت وسائل الإعلام المحافظة والإصلاحية تحديثات، دقيقة بدقيقة، للأحداث التي أقيمت في جميع أنحاء البلاد. حتّى بعض الإصلاحيين أشاروا إلى رئيسي شهيداً، وهو ما يدلّ على استعدادهم للمشاركة في السباق الرئاسي المُقبل على أمل أنّ تشهد البلاد تغييراً في سياسة الاستبعاد.
قد تساعد تكنولوجيا الحداد الحكومة الإسلامية مؤقتاً في إخفاء وتحويل الانتباه عن الأخطاء الحكومية ولكنّ الحفاظ على التماسك الاجتماعي رهين النزاهة والحريّة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة
قدّمت هيئة الإذاعة الحكومية تغطيةً مستمرّة، فنشرت في موقعها على الإنترنت مقاطع فيديو لحشود تواكب نعوش رئيسي ورفاقه في وسط طهران. كما نشرت المواقع الإخبارية صوراً لحشود كبيرة في العاصمة الإيرانية. وصفت اللقطات الجوية للأشخاص في الشوارع من قبل هيئة الإذاعة الحكومية بأنّها "مسيرات حِداد رائعة". وسار الآلاف ممن يرتدون الأسود إلى جانب النعوش، فقام البعض بإلقاء الزهور، بينما بكى مذيع عبر مكبّر الصوت. في تبريز ومشهد تجمّعت حشودٌ كبيرة، مع تغطية واسعة في جميع الشبكات التلفزيونية الكُبرى، التي تديرها الدولة. تمّ دفن رئيسي في المدينة المُقدّسة مشهد يوم الخميس، بعد أربعة أيام من وفاته في حادث تحطّم مروحية. وأظهرت لقطات بثّتها وسائل الإعلام الإيرانية آلاف المشيّعين يملأون الشوارع لحضور جنازته. وأعلن عمدة مشهد أنّه، وفقاً للتقديرات، شارك ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص في جنازة "الشهيد آية الله سيد إبراهيم رئيسي"، ومع ذلك، تمّ التشكيك في هذا الادعاء من عديد من النشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي. في السياق نفسه، صاغت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية روايات بطولية لجميع ركّاب المروحية المحطّمة، بما في ذلك الرئيس الراحل ووزير الخارجية وحرّاسهم الشخصيين وطاقم الطائرة. صوّر التلفزيون الإيراني رئيسي وعبد اللهيان شخصياتٍ محبوبة وصبورة تحمّلت مختلف أنواع الإساءات من نقّادهم، وخاصّة الإصلاحيين، ما يحاكي مقارنةً مع الرئيس السابق حسن روحاني ووزير الخارجية السابق جواد ظريف. أطلقت آلة الدعاية حملتها لمنعِ الأحزاب المتنافسة، ولا سيّما الإصلاحية، التي لا تتماشى مع المُرشد الأعلى، من الترشّح للسباق الرئاسي المُقبل المُقرّر تنظيمه في 28 يونيو/ حزيران.
قد تساعد تكنولوجيا الحِداد الحكومة الإسلامية مؤقتاً في إخفاء وتحويل الانتباه عن الأخطاء والكفاءات الحكومية. ولكنّ الحفاظ على التضامن والتماسك الاجتماعي رهين النزاهة والحريّة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة. من المتوقّع أن تستشهد الحكومة بالحشود الكبيرة التي حضرت الجنازة في طهران دليلاً على شعبية الرئيس وشرعية النظام. ومع ذلك، قد تشير المشاركة الانتخابية إلى مُجرّد تعاطف مع المتوفّى، وهو ما يترك قضايا الشرعية التي تُواجه السلطات من دون حلّ.