الجزائر: نتيجة الـ"لا أحد يمثلنا"
تحتاج الجزائر إلى حلول من خارج الصندوق. قد تكون هذه هي الخلاصة الأبرز للقراءة السريعة لنتيجة الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور الجديد الذي عرضته السلطة، وجنّدت، في سبيل تمريره بـ"نعم"، كل قدراتها، القانونية والمتجاوزة على القانون، على مدى أشهر. فأن يكون 23.8% فقط ممن يحق لحق لهم التصويت، أي 5.5 ملايين مواطن ومواطنة (من مجموع 23.5 مليون ناخب مسجلين)، قد اتجهوا إلى الصناديق، في أدنى نسبة مشاركة في أي استحقاق انتخابي على مدى تاريخ هذا البلد، فإنما ذلك يعني انتكاسة جليّة لسعي وَرَثة فريق عبد العزيز بوتفليقة، إقناع الرأي العام الجزائري بفكرة السير في الحلول التقليدية، الانتخابية والدستورية، لأزمة تعثر العقد الاجتماعي ــ السياسي بين السلطة والشعب، بسلمية هشة وديمقراطية ركيكة.
لا داعي لاستغراب النتيجة، حتى بالنسبة لمراقبين من المشرق العربي يعرفون القليل عن أحوال البلدان المغاربية. فالثقة التي سعت مجموعة عبد المجيد تبون إلى الإيحاء ببنائها مع الجزائريين منذ عام، مدعومة في ذلك من الجيش وبقية مؤسسات الدولة العميقة، ظلت مجرد كلام غير مقنع للطيف الأوسع من المواطنين. ظهر ذلك خلال المحطات الرئيسية لانتفاضة سنة 2019، وفي مرحلة طرح مشروع الدستور: الاعتقالات الجماعية للرموز الاقتصادية والسياسية لفريق بوتفليقة بقيت قاصرة عن نيل شهادة بناء "جزائر جديدة". أعداد المهاجرين الشباب أو الساعين إلى الهجرة النظامية أو السرية جرى تجاهلها مع ما تحمله من مؤشّرات إحباط في أكثر بلد عربي غير خليجي يحوي غازا ونفطا. استمرار الحراك الشعبي على الرغم من قيود كورونا وحواجز السلطة، كان يحاول البوح بذلك. سجن الصحافيين والتضييق عليهم لم يساهما إلا في إضعاف منسوب تصديق الوعود. الاكتفاء بالحيل البلاغية للأزمة الأمازيغية في مشروع الدستور انفجر مقاطعةً غير مسبوقة في منطقة القبائل. عرض نسخة التعديلات الدستورية على الأحزاب واجهها الحراكيون بشعارهم المفضل: هؤلاء لا يمثلوننا. في ذلك الشعار تكمن تفاصيل الحكاية: من يمثل الشارع المعارض إذاً، وماذا يريد بالتحديد؟
رفع الحراك الشعبي الجزائري الراية نفسها التي حملتها شوارع بلدان عربية أخرى في الموجة الثانية من الانتفاضات: لن نقدّم ممثلينا السياسيين قبل رحيل الطبقة الحاكمة. طبقة مطلوب رحيلها (إلى أين؟) تُسمى "العصابة" في الجزائر، و"كلهم يعني كلهم" في لبنان، و"الحرامية" في العراق و"الكيزان" في السودان. بهذا الشعار المركزي، لم كان ممكناً توقع أكثر من مقاطعة واسعة للاستفتاء في الجزائر. قال المعارضون ما لا يريدون، لكنهم لم يبوحوا بما يرغبون. فلو صوّتت نسبة عريضة من المقاطعين ضد المشروع المقدّم، لأمكن ربما القول إن هناك فرصة سانحة لتنظيم المعارضين في أطر وأحزاب وتيارات سياسية جديدة ما دامت الأحزاب الكرتونية الموجودة بالفعل لا تمثلهم، ولا يجدر أن تمثلهم أصلاً.
لكن ضوءاً ظهر في عتمة الاستفتاء والتعاطي الرسمي معه. اعتراف السلطة بالنسبة الحقيقية للتصويت ليس تفصيلاً في المشهد العربي العام المعتاد على تزوير نتائج كل شيء، واختراع توجهات وهمية للرأي العام حيال أي شأن. من حق رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، محمد شرفي، أن يهنئ نفسه وهو يشدّد على أن السلطة لا تكذب في عرض نسبة التصويت، وإن كانت مخيبة للغاية بالنسبة لها. هذا الاعتراف يمكن أن يفتح بابين لحلول من خارج صندوق الأجوبة الكلاسيكية للأزمات السياسية في بلد مثل الجزائر: باب للسلطة لكي تواصل اعترافاتها بفشل استراتيجياتها في إدارة المرحلة الانتقالية، بما أنه لا يكفي التغني حصراً بعدم قتل أي متظاهر طوال أشهر حراك إطاحة بوتفليقة وعدد من رموز حقبته. وباب آخر لخصوم الحكم يمكن أن يؤدّي بهم لأن يصبحوا معارَضة تقول ماذا تريد وترسم خريطة طريق لبلوغه، بدل أن يظلوا معارِضين لا يريدون لأحد أن يمثلهم.