الجريمة الفلسطينية المسكوت عنها في سورية

20 ابريل 2023
+ الخط -

في ظل القمع الدموي الذي مارسه النظام في سورية ضد الاحتجاجات الشعبية عليه، عاش الفلسطينيون هناك، والذين لم يستثنهم النظام من وحشيته، مفارقةً تمثلت في وقوف الفصائل والسلطة الفلسطينية مجتمعين مع النظام في معركته ضد شعبه، واعتبار ما جرى ويجري في سورية مؤامرة "على الموقف الوطني الممانع للنظام"، مردّدين خطابه الممجوج في تبرير جرائمه. وكان الاستثناء الوحيد الذي خالف هذا الإجماع ووقف مع الاحتجاجات، موقف حركة حماس في بداية الاحتجاجات، ولكنها عادت وصالحت النظام، ملتحقة ببقية الفصائل في موقفها.

شعر الفلسطينيون في سورية، بسبب هذه المواقف الفلسطينية المخزية للفصائل والسلطة الفلسطينية، بالخيبة، وبأن المؤسّسات التي يُفترض أنها مشغولة بهم وبقضيتهم، لا تراهم ولا ترى أوجاعهم ومأساتهم، مع أنها تعدّ نفسها ممثلهم الشرعي والوحيد، والفصائل التي تعتبر نفسها ناطقةً باسمهم ليست أفضل حالاً. إذا كان من الصحيح أن الضحايا السوريين قد وجدوا من يتحدّث عن مأساتهم وقمعهم الوحشي من النظام، فكانت المعارضة السورية، على ضعفها وارتهاناتها، لسان حالهم، فإن من الصحيح أيضاً أن الفلسطينيين لم يجدوا طرفاً فلسطينياً يتحدّث باسمهم ويعبر عن المأساة التي عاشوها، والتي هي، بطبيعة الحال، امتداد للمأساة السورية، انتظروا أن يقوم ممثلهم الشرعي بهذه المهمة، لكنه لم يفعل. وبذلك كانوا ضحايا مقطوعي اللسان في المذبحة السورية.

كان من المؤلم للفلسطينيين في سورية أن تختفي آلامُهم خلف آلام السوريين، ليس لأنها مختلفة أو أهم، ويجب التركيز عليها أكثر، فهي نتاج المجرم ذاته ووحشيته ذاتها، بل لأن من حقّهم، بوصفهم ضحايا، على من يدّعون تمثيلهم ويتحدّثون باسمهم أن يوصلوا صرخة الألم الخاصة بهم. وبدلا من ذلك، ساهم من يدّعون تمثيلهم في التغطية على الجريمة التي ارتكبها النظام بحقهم وبحق الشعب السوري، ولم يدافعوا عن تجمّعات شعبهم التي اتهمها النظام في بداية الاحتجاجات بأنها جزء من المؤامرة على البلد. وإذا كان من المخزي ألا ترى الفصائل الفلسطينية جريمة النظام السوري بحق السوريين بانحيازها إلى النظام، فأن لا يرى هؤلاء الجريمة التي تُرتكب بحقّ شعبهم هناك، يرقى إلى مستوى الجريمة بحقّ من يدّعون تمثيله.

يساهم ممثل الفلسطينيين الشرعي مع النظام في سورية في طمر مأساتهم تحت ركامٍ من الأكاذيب

القضية الفلسطينية بوصفها قضية ضحايا في مواجهة جلاد هو ما منحها شرعيتها ومنح الفلسطينيين، بوصفهم ضحايا لإسرائيل، الحقّ في أن ينالوا حقوقهم وحريتهم، وهو ما جعلها قضيةً تستحقّ التضامن والدعم في مواجهة الظلم الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني. كان من اللافت والمخزي أن لا يرى من يدّعون تمثيل الضحية الفلسطينية إخوتهم السوريين بوصفهم ضحايا نظام وحشي، بل على العكس يرونهم أدوات مؤامرةٍ على النظام القائم، وحافظوا على علاقةٍ جيدة معه. بل وأكثر من ذلك، حتى من لم تكن علاقته جيدة مع هذا النظام، قصدنا بذلك حركة فتح، حسَّنت علاقتها معه بعد انطلاق الاحتجاجات في سورية، وعادت قيادتها إلى البلد لتستعيد أملاكها التي صادرها النظام على خلفية الخلاف الفتحاوي ـ السوري الذي تسبّب في اقتتال فلسطيني ـ فلسطيني دموي في لبنان العام 1983. ومن مفارقاتٍ مؤلمةٍ أن "فتح" استعادت أملاكها في سورية في وقتٍ كان النظام يقصف فيه المخيمات الفلسطينية هناك بوحشية، أدّت إلى هدم جزء كبير منها وجعلها غير صالحة للسكن، وفي ظل تهجير واسع للأغلبية الساحقة من أهاليها. وهذه الجرائم التي ارتكبت بشكل علني ومفضوح، ولم يسمع أحدٌ كلمة واحدةً من الفصائل الفلسطينية تدينها، هذا إذا تجاوزنا الموقف المخزي من الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، على اعتبار ذلك من بعض الحريصين الفطاحل على القضية الفلسطينية، تدخّلاً في الشؤون الداخلية السورية.

عانى الفلسطينيون في سورية ما عانى منه المواطن السوري، على مستوى القبضة الأمنية التي حكمت المجتمع السوري، والتي شملت المخيمات بشكلٍ طبيعي، ودفعت ثمناً قمعياً إضافيا، كونها تجمّعاتٍ فلسطينية، عند وقوع الخلافات بين الفصائل الفلسطينية وبين السلطات السورية. وهذا ما حصل بين حين وآخر، واعتبر الفلسطينيون في سورية من واجبهم الوقوف مع قضيتهم، لذلك دفع جزءٌ منهم ثمناً سنواتٍ في المعتقلات السورية في خلاف السبعينيات على خلفية انتمائهم لجبهة الرفض، ودفع آلافٌ من الفلسطينيين سنواتٍ من الاعتقال على خلفية الخلافات بين حركة فتح والنظام في الثمانينيات. وعندما دخلت المخيمات نكبتها الجديدة على يد النظام، لم تدِن أيٌّ من الفصائل التي دفع أعضاؤها ومؤيدوها ثمناً لانتمائهم لها سنواتٍ في المعتقلات السورية هذه الجرائم، لا بحقّ السوريين ولا بحقّ أبناء شعبهم.

لقد أظهرت النكبة التي عاشتها التجمّعات الفلسطينية في سورية هشاشة وضعهم وانكشافهم، ليس فقط أمام القمع الوحشي للنظام فحسب، بل وكشفت أنهم متروكون وحدهم في مواجهة مصيرهم المجهول، وليس لممثلهم الشرعي المشغول بكل شيء إلا بمأساتهم، أيّ علاقةٍ بمأساتهم، بل على العكس، هو يساهم مع النظام في طمر مأساتهم تحت ركامٍ من الأكاذيب، ويخلّص ذمّته، بإرسال مساعداتٍ تافهةٍ مع لصوصه الذين يسرقونها في دمشق، معتبراً ذلك يبرّئ ذمّته من دم الفلسطينيين الذين قتلهم النظام، ومن وجع النازحين في المناطق الأخرى الذين لا يجدون ما يقتاتون به. وبذلك منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية ليستا حالةً منفصلة عن الواقع الفلسطيني في سورية، وغيرها من مناطق وجودهم، بل هي بنى وهياكل معادية للشعب الفلسطيني.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.