الثوّار إذ يأكلون ثورتَهم
لا يخذل ثورات الربيع العربي، وفي القلب منها الثورة السورية، الأكثر نزفاً ومعاناة، إلّا أولئك الذين يضعون مأساتها المصيرية في مقارنة مع المأساة الفلسطينية، وكأنّنا بصدد مفاضلةٍ بين دمٍ ودمٍ، وجرحٍ وجرحٍ، أمّا الأكثر خذلاناً لهذه الثورات فهو زجّها في المعركة ضدّ الكيان الصهيوني، التي هي أمّ المعارك وقضية القضايا، بالمقاييس الأخلاقية والوجودية.
كان هذا "الربيع العربي"، في جوهره، مشروع إحياء ضدّ تمدّد المشروع الصهيوني، الذي كان طوال الوقت يتغذّى على الاستبداد المُعشّش في أنظمة الحكم العربية، التي قتلت حرّيات الشعوب وخنقت محاولات الانتقال إلى حالة ديمقراطية، بزعم أنّها في مواجهة تربّص الأعداء. وعلى ذلك، كانت فلسطين حاضرةً في أحلام (وهتافات) ملايين الجماهير العربية الغفيرة، التي ثارت في العام 2011، بل يمكن القول، من دون الوقوع في المبالغة، إنّ قضية فلسطين كانت حافزاً لخروج قطاعات واسعة من الشعوب العربية ثائرةً على حكّامها.
وكما قلت، أيّ راصد لمسار الثورات العربية في بداياتها يدرك أنّ أعلام فلسطين (في العام 2011) كانت حاضرةً في ميادين الثورات كلّها، من تونس الخضراء إلى القاهرة، مروراً بصنعاء ودمشق، في كرنفال تحرير مفتوح وممتدّ بطول خريطة الأحلام العربية وعرضها.
وفي الحالة المصرية تحديداً، كان أوّل ما سعت إليه الثورة بعد التخلّص من حسني مبارك هو التخلّص من إرث "كامب ديفيد" المشين، ممثّلاً في وجود سفارة للعدو الصهيوني يخرق العلم المرفوع عليها أعينَ كلّ من يمرّ به، فحدَث أنْ حاصرت الجماهير السفارة، حتّى فرّ سفير الكيان مذعوراً عائداً إلى دولة الاحتلال.
ومرّة أخرى، كان ذلك بالتحديد، الفارق الذي صنعته ثورات الربيع العربي، والثمرة الأولى لمحاولة تحرير المواطن العربي من احتلال دولة الاستبداد والقهر. وفي ضوء ذلك، يمكن فهم سرّ هذه الهمّة الإسرائيلية في دعم المشاريع العكسية المضادة للثورات العربية واحتضانها. إنّهم لا يريدون جيلاً يتذكّر أسماء أسلافه الذين ماتوا دفاعاً عن الأرض، أو يحفظ أسماء المدن وتواريخ المجازر والمذابح.
هذا هو "الربيع العربي" كما يفهمه كاتب هذه السطور، وكما عايشه، فلسطيني الملامح والحلم والوجع، أو هو ثورة ضدّ الاحتلال وصديقه الاستبداد، على عكس مشاريع الثورات المضادّة، التي كانت انتقاماً صهيونيّاً من تلك المحاولة للتمرّد على واقع كريه يُكرّس احتلال فلسطين، وهي المحاولة التي نُحِرت مُبكّراً، فعادت تلّ أبيب تهيمن على خرائط الشرق الأوسط كلّه، وتتلقّى الهدايا من قتلة ربيع الشعوب العربية، حتّى جاء "طوفان الأقصى"، فأحيا الحلمَين معاً، التحرّر من الاحتلال، والثورة على الاستبداد. وفي ضوء ذلك، انحازت مشاعر الجماهير إلى كلّ رصاصةٍ تطلق على الاحتلال دعماً للمقاومة الفلسطينية، وتتعالى على المرارات القديمة كلّها ضدّ من كانوا يوماً داعمين للاستبداد، لكنّهم في الوقت ذاته مقاومون للاحتلال، إدراكاً بأنّ واجب الوقت هو الاصطفاف مع الشعب الفلسطيني، انحيازاً لكل من يدعمه بحجر أو صاروخ أو كلمة، وعداءً لأعدائه. وبالتالي، كل ما يرضي غزّة يرضينا، وكلّ من تراه مقاومةُ غزّة شقيقاً أو حليفاً، هو كذلك إلينا، أو في الحدّ الأدنى ليس خصماً أو عدوّاً لنا، نتألّم لألمه ونرى كل من يموت من رجاله في معركة الأقصى شهيداً، من دون أن يكون في ذلك كلّه خيانة أو خذلاناً للثورات المقتولة، التي يُعاد قتلها والتمثيل بجثتها الآن، على أيدي هؤلاء الذين يرقصون فرحاً بالضربات الصهيونية للمقاومة في لبنان واليمن والعراق، والتي تقتل المواطنين قبل المقاومين.
عارٌ على هذه الثورات أن يصل الأمر ببعض المحسوبين عليها أن يفرحوا لما يُفرِح إسرائيل، وأن يرقص أحدهم متّشحاً علم ثورة بلاده بينما ترتفع يده بالعلم الإسرائيلي، في صورة لم يكن يحلم بها ويتمنّاها ألدّ أعداء الثورات... هذا هو الخذلان الحقيقي للثورات ولشهدائها.