التوتر الأميركي – السعودي بعد قرار "أوبك +"... حدوده وآفاقه

31 أكتوبر 2022
+ الخط -

أثار قرار مجموعة "أوبك +"، في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، خفض إنتاج النفط بمقدار مليونَي برميل يوميًّا، ابتداءً من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، توترًا علنيًّا بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، وصل إلى حد "تراشق" الاتهامات. وكانت الولايات المتحدة قد ضغطت على دول أعضاء في المجموعة، وخصوصا السعودية بوصفها أكبر مصدّر للنفط عالميًّا، للانتظار شهرًا آخر من أجل تقييم وضع السوق قبل اتخاذ أي قرار بشأن تخفيض الإنتاج؛ باعتبار أنّ من شأن ذلك رفع أسعاره عالميًّا وزيادة نِسب التضخم. وقد اتهمت الولاياتُ المتحدةُ السعوديةَ ودولًا أخرى في "أوبك +"، بالانحياز إلى روسيا، العضو في هذه المجموعة، ومساعدتها في الحصول على مزيد من الأرباح، بسبب رفع أسعار النفط. وفي المقابل، زيادة وطأة آثار الحرب في أوكرانيا على الاقتصادات الغربية والعالمية بسبب هذا الارتفاع. لكن السعودية تنفي ذلك، وتقول إنّ اعتبارات تخفيض الإنتاج كانت كلّها اقتصادية، ولمّحت إلى أن ضغوط البيت الأبيض في هذا الصدد تخدم أهدافًا سياسية انتخابية بالدرجة الأولى؛ ذلك أن الانتخابات النصفية الأميركية تجري في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، ويواجه فيها الحزب الديمقراطي صعوباتٍ بسبب تراجع الوضع الاقتصادي وارتفاع نسب التضخّم. 
مراجعة العلاقات بين البلدين
صرّح الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعد صدور قرار "أوبك +" بخفض إنتاج النفط، في إثر مدّة قصيرة من زيارته السعودية، بأنه سيقوم بمراجعة شاملة للعلاقات الأميركية - السعودية، في حين طالب أعضاء الكونغرس الأميركي من الديمقراطيين بفرض عقوباتٍ قاسيةٍ على السعودية. ويرى هؤلاء أنّ الموقف السعودي، الذي يصفونه بأنه داعمٌ لروسيا، يهدف أيضًا إلى نوعٍ من التأثير في فرصهم في الانتخابات القادمة؛ إذ يرون أنه من الصعب تخيُّل أن يكون توقيت القرار، قبل أسابيع من الانتخابات، مصادفة؛ ذلك أنّ فوز الجمهوريين في الانتخابات القادمة قد يمهّد الطريق لعودة الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي ربطته علاقة قوية بالسعودية، أو مرشح جمهوري آخر.

ربط بايدن أي قرارٍ يتّخذه ضد السعودية بمشاورات سيجريها مع الكونغرس بعد الانتخابات

وقد تعرّض بايدن لانتقادات شديدة بسبب زيارته السعودية في صيف 2022 ولقائه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، بعد أن تعهّد خلال حَمْتله الانتخابية باتخاذ مواقف متشدّدة تجاه السعودية، على خلفية سِجلّها في حقوق الإنسان، واغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، عام 2018. وبعد هذه الزيارة، زادت السعودية إنتاجها النفطي؛ ما عُدَّ نجاحًا لزيارة بايدن، وكان ذلك بمنزلة "فتح لصفحة جديدة" في العلاقات بين الطرفين. وقبل أيام من قرار "أوبك +" تخفيض الإنتاج، أرسل بايدن مستشارَين إلى السعودية، قدّما تحليلًا يُظهر أنه لا توجد اعتبارات مرتبطة بالسوق لخفض الإنتاج، وطلبا التريّث إلى الاجتماع القادم قبل اتخاذ مثل هذا القرار. إلا أنّ السعوديين أصرّوا على أنّ ثمّة تراجعًا في الطلب العالمي على النفط من جرّاء تشديد السياسات النقدية في الولايات المتحدة وأوروبا، والإغلاقات في الصين بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، ما قد يؤدي إلى انهيار أسعاره. وقد ربط بايدن أي قرارٍ يتّخذه ضد السعودية بمشاورات سيجريها مع الكونغرس بعد الانتخابات (8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022). وبحسب مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، فإن بايدن سيتصرّف "بشكل منهجي" في تقدير كيفية الردّ، ولن يلتقي بن سلمان في قمّة العشرين في إندونيسيا في تشرين الثاني/ نوفمبر. 
الخيارات الأميركية
تملك الولايات المتحدة حزمةً من الوسائل والأدوات للضغط على السعودية، ولكنّ تأثيرها يعتمد على عاملين اثنين؛ أولهما متمثّل في المدى الذي تريد الولايات المتحدة الذهاب إليه في مراجعة العلاقات بينها وبين السعودية، أمّا ثانيهما فهو متمثّل في حجم التداعيات التي ستكون الولايات المتحدة مستعدة لتحمّلها في حال فَرْضِ عقوباتٍ قاسيةٍ على السعودية. ويمكن تلخيص أهم الخيارات التي تملكها الولايات المتحدة في الآتي:
1. تعويض المعروض من النفط من مصادر أخرى 
تبدو خيارات الولايات المتحدة بشأن تعويض المعروض من النفط محدودة. وثمَّة تقارير تشير إلى أن إدارة بايدن قد تسعى إلى تخفيف العقوبات على نظام الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، والسماح لشركة شيفرون الأميركية باستئناف أنشطتها في فنزويلا وتصدير النفط، إلا أنّ قرارًا بهذا الحجم ستكون له تداعيات سياسية كبيرة في الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل عدم اعترافها بشرعية مادورو بعد انتخابات عام 2018 التي طعنت المعارضة في نزاهتها. ويبدو أن إدارة بايدن تساوم نظام مادورو بشأن إجراء حواراتٍ ذات معنى مع المعارضة المحلية، واتخاذ خطوات بَنّاءة مقابل تخفيف العقوبات، ولكن هذا الأمر يعتمد على تجاوب الجانب الفنزويلي، وهو ما لا توجد مؤشّرات دالة عليه حتى الوقت الراهن. ويوجد أيضًا حديث عن أنّ اتفاقًا نوويًّا محتملًا مع إيران قد يترتّب عليه ضخّ أكثر من مليون برميل من النفط يوميًّا إلى الأسواق الدولية، إلا أن هذا الخيار مستبعد في هذه المرحلة.

أمر بايدن في نوفمبر 2021 بسحب 50 مليون برميل من الاحتياطي

يبقى لبايدن إمكانية سَحْب مزيدٍ من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الأميركي، وهو أمرٌ متاحٌ له دستوريًّا، وهذا ما قام به فعلًا. ففي 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، أمر بضخّ 15 مليون برميل بدءًا من تشرين الثاني/ نوفمبر للحفاظ على الأسعار القائمة حاليًّا. ويندرج هذا الإعلان في سياق القرار الذي كان قد اتخذه في آذار/ مارس 2022، المتمثل في ضخّ 180 مليون برميل في السوق للحد من ارتفاع أسعار الوقود. وكان بايدن قد أمر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 بسحب 50 مليون برميل من هذا الاحتياطي. ورغم أن هذه القرارات كسرت من حدّة أسعار الوقود في الولايات المتحدة، فإنّ الثمن الاستراتيجي لهذه الأسعار كان مرتفعًا جدًّا؛ إذ انخفض الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي إلى نحو 400 مليون برميل، وهو ما دفع الجمهوريين إلى اتهام إدارة بايدن بالقيام بذلك، من أجل تعزيز حسابات الديمقراطيين الانتخابية. وفي كل الأحوال، يبقى الاستناد إلى المخزون الاستراتيجي الأميركي محدود الأثر؛ ذلك أنه لا يمكن أن يستمر وقتًا طويلًا، ولا يمكنه إعادة الأسعار إلى المستوى الذي كانت عليه عندما تسلّم بايدن الرئاسة في مطلع عام 2021. 
2. تمرير مشروع قانون "نوبك" 
تملك إدارة بايدن خيارًا ثانيًا يتمثل في دعم مشروع قانون "نوبك" NOPEC في الكونغرس، وهو مشروعٌ يهدف إلى تقليص قدرة الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) على تحديد أسعار النفط من خلال رفع الحصانة السيادية عنها أمام المحاكم الأميركية، ما يعني إمكانية مقاضاتها على أساس قوانين مكافحة الاحتكار. وقد قُدّم مشروع القانون أول مرة في عام 2000، ثمّ قُدّم بصيغ مختلفة، منذ ذلك الحين، 16 مرّة. وفي عام 2007، كاد يتحوّل إلى قانون بعد التصويت عليه بأغلبية كبيرة من الحزبين في الكونغرس، لولا تهديد الرئيس، جورج بوش الابن، بنقضه استنادًا إلى "حق النقض" (الفيتو). وفي أيار/ مايو 2022، أقرّت لجنة في مجلس الشيوخ مشروع القانون، ولكن لا بد لهذا المشروع من التصويت عليه في مجلسَي النواب والشيوخ، ثمَّ توقيعه من الرئيس نفسه، حتى يصبح قانونًا. 

خشية من أن يؤدي تمرير قانون "نوبك" إلى دَفْع دول في أوبك إلى تسعير النفط بعملات أخرى غير الدولار

ومع أن إدارة بايدن لمّحت إلى إمكانية تمرير "نوبك"، فإنه توجد تداعيات تترتب على ذلك؛ سواء فيما يخص الدول المستهدفة، أو الولايات المتحدة نفسها. ويتخوّف خبراء أميركيون من أنْ تكون لتمرير مشروع القانون عواقب كبيرة متعلقة بصناعة النفط الأميركية. ويقول هؤلاء إنّ نجاح الولايات المتحدة عبر المحاكم في فرض سقف لأسعار النفط عالميًّا قد يؤدّي إلى توقف شركات النفط الأميركية عن العمل؛ لأنّ تكلفة استخراج النفط في دول "أوبك" قليلة مقارنةً بتكلفة استخراجه في الولايات المتحدة. ومن العواقب المحتملة أيضًا أن تلجأ دول "أوبك" التي لديها أصول مالية في الولايات المتحدة إلى التخلّص منها لتجنيبها الخضوع لسلطة المحاكم الأميركية، وهو ما ستكون له آثار سلبية في الاقتصاد الأميركي. ففي تموز/ يوليو 2022، كانت السعودية والإمارات والكويت والعراق، وكلها دول أعضاء في "أوبك"، تملك نحو 246 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية. ومن المرجّح أن يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك كثيرًا إذا ما احتسبت السندات التي تجري عبر ملاذات ضريبية؛ مثل لوكسمبورغ، وجزر كايمان، وبرمودا، وسويسرا، وإيرلندا. ومع أنه من غير المرجح أن تكون هذه الدول ممتلكة لأكثر من 5% أو 10% من إجمالي الاستحواذ على الدين السيادي الأميركي، فإن من المؤكَّد أنّ التخلي عن تلك الأصول سيهزّ سوق سندات الخزانة؛ وذلك في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة اضطرابًا اقتصاديًّا. ورغم أنّ تخلّي تلك الدول عن أصولها في الولايات المتحدة على نحو سريع وغير محسوب قد يعرّضها لخسائر هائلة، فإنّ "حشرها في الزاوية" قد يدفعها إلى هذا الأمر. 
توجد خشية أيضًا من أن يؤدي تمرير قانون "نوبك" إلى دَفْع دول في أوبك إلى تسعير النفط بعملات أخرى غير الدولار، أو تسعيره بعملات أخرى إلى جانب تسعيره بالدولار. لذلك كله، من المستبعد أن تُقْدم إدارة بايدن على هذا المسار، رغم أن السناتور الجمهوري، تشاك غراسلي، قد أضاف "نوبك" بصيغة تعديل على مشروع قانون الإنفاق السنوي لوزارة الدفاع؛ ما يعني وجود احتمال قوي للتصويت عليه في مجلس الشيوخ في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. 
3. تجميد مبيعات الأسلحة وسحب القوات والأنظمة الدفاعية
يتمثّل الخيار الثالث الذي يمكن أن تلجأ إليه إدارة بايدن (إنْ خسر الديمقراطيون الانتخابات النصفية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة) في تجميد بيع الأسلحة للسعودية والإمارات، وسحب منظومات الدفاع الصاروخي والقوات الأميركية الموجودة على أراضيهما. ويتبنّى هذا الخيار أعضاء من الكونغرس بمجلسيه من الحزب الديمقراطي، ومن بينهم السناتور النافذ، بوب مينينديز، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي. ويتهم المشرّعون الديمقراطيون السعوديةَ، وبدرجة أقل الإمارات، بالوقوف إلى جانب روسيا في حربها في أوكرانيا. وفي حين يطالب مينينديز بتحديد سقف مبيعات الأسلحة للسعودية على نحوٍ لا يتجاوز ما هو ضروري للدفاع عن المواطنين الأميركيين هناك، فإنّ أعضاءً آخرين - مثل النائب رو خانا، والسناتور ريتشارد بلومنثال – قدّموا مشروع قانون في مجلسَي النواب والشيوخ من شأنه، في حال إقراره، وقف جميع مبيعات الأسلحة للسعودية عام واحد.

غضب متزايد في الولايات المتحدة، ودعوات متصاعدة لمراجعة العلاقات مع السعودية وفرض تكلفة عليها من جرّاء موقفها في "أوبك +"

 وقد قدّم ثلاثة أعضاء ديمقراطيين في مجلس النواب مشروع قانون "لإنهاء الحماية الأميركية لشركاء الخليج" عبر سحب القوات الأميركية من السعودية والإمارات. ويوجد في الإمارات حاليًّا نحو 3500 جندي أميركي، يطالب بعض أعضاء الكونغرس بسحبهم كلّهم. أما في السعودية، فإنّ الولايات المتحدة قد سحبت معظم قواتها منها عام 2003، وأبقت عددًا منهم بوصفهم مستشارين وخبراء، وللتعامل مع أنظمة الصواريخ والبطاريات المنتشرة فيها تحديدًا. وسيكون لتجميد بيع الأسلحة للسعودية والإمارات، إذا ما جرى هذا الأمر، تداعيات سلبية على البلدين؛ فمن ناحية، لن تستطيع هاتان الدولتان تعويض المستوى النوعي المتقدم للأسلحة الأميركية من دول أخرى، بما فيها روسيا والصين. ومن ناحية ثانية، سيتطلب الأمر من الدولتين سنوات طويلة لتحويل أنظمتهما الدفاعية (وهذا يتضمن الأسلحة الثقيلة والعالية التقنية والاتصالات والرادات وأسلحة الدفاع الجوي) من المنظومات الأميركية إلى منظومات أخرى. ومن ناحية ثالثة، سيعاني البلدان عدم قدرتهما على توفير قطع الغيار، خصوصًا بالنسبة إلى الطائرات المقاتلة من صنع أميركي. ومن ناحية رابعة، فإنه لا يمكن أن تعتمد الدولتان على وجود عسكري صيني أو روسي في المنطقة لتوفير مظلة عسكرية حمائية بديلة من المظلة العسكرية الأميركية. ومع ذلك، يحذر البعض من أن اتخاذ إجراءات قاسية على هذا النحو قد يدفع السعودية إلى تطوير علاقاتها بكل من الصين وروسيا. ثمّ إن الانسحاب الأميركي من المنطقة قد يفسح المجال لروسيا والصين لملء الفراغ. يضاف إلى ذلك أنّ متوسط المبيعات العسكرية الأميركية عام 2021 بلغ نحو 47 مليار دولار، كانت حصة السعودية منها 24%؛ أي نحو رُبع مبيعات الأسلحة الأميركية لجميع أنحاء العالم، وهي نسبة مرتفعة جدًّا بجميع المقاييس؛ ما يعني أنّه سيكون لوقف بيع الأسلحة الأميركية للسعودية، أو تجميد البيع، آثار سلبية في الاقتصاد الأميركي وفي شركات الأسلحة الأميركية. 
خاتمة
يوجد غضب متزايد في الولايات المتحدة، ودعوات متصاعدة لمراجعة العلاقات مع السعودية وفرض تكلفة عليها من جرّاء موقفها في "أوبك +". ومع ذلك، فمن المستبعد أن يؤدي هذا الأمر إلى حدوث تغيير جوهري في العلاقات بين الطرفين؛ فالعلاقات بينهما، منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي، أساسها تعاقدي ومصلحي، وليس مبدئيًّا وتحالفيًّا. ورغم تراجع حاجة الولايات المتحدة إلى النفط السعودي، فإنها لا تزال في حاجة إليه لاستقرار أسواق الطاقة العالمية. وفي المقابل، تدرك السعودية أنها لا تملك، في المدى المنظور، بديلًا من المظلة الحمائية الأمنية الأميركية، وذلك رغم تعزز العلاقات بينها وبين كلٍّ من روسيا والصين. لذلك، سارعت السعودية في خضم "التراشق" الإعلامي بينها وبين الولايات المتحدة، إلى التعهد بتقديم 400 مليون دولار مساعدات إنسانية لأوكرانيا، وصوتت لأوكرانيا أيضًا، في الأمم المتحدة، ضد الاجتياح الروسي، وهو أمرٌ رحّب به البيت الأبيض.