التمساح العاشب
هي محض مجازر أخيرة كان على التمساح أن ينجزها قبل أن يقنع شعوب الغابات بأنه تحوّل إلى حيوان عاشب، وينال، بالتالي، شرعية لسلطته التي لم تكن تستقيم بغير التوحش والطغيان والتهام لحوم رعيته. أما الضحايا الجدد، هذه المرّة، فهم الأقربون إليه، من الصف الثاني في منظومة السلطة، الذين أعانوه على التوحّش، وأسهموا بتوطيد أركان سلطته، لقاء المنافع والمصالح. كانت تلك الطغمة لازمة في مرحلةٍ ما، قبل سيادة مفردات حقوق الحيوان. لكن مع تبدّل المراحل، فاحت رائحتها العفنة، وأصبح وجودُها معرقلاً توجهاته الجديدة، ولا سيما أنها طغمةٌ عسيرة التأهيل، فقد اعتادت البطش والتنكيل، باسم التمساح الحاكم نفسه، وغدت محسوبةً عليه. ولذا كانت إزاحتها من طريقه خطوة ضرورية للحفاظ على سلطته، وهذا ما كان عندما راح التمساح ينفّذ مجازره الجديدة بإعدادٍ وتخطيطٍ ماكريْن، وبالتقسيط، حتى لا تتألّب عليه هذه الطغمة التي يعرف مدى وحشيتها التي استمدّتها منه شخصيّاً، بل إنه بعد اغتيال أي فرد منها، كان يظهره بمظهر "الضحية" التي تستحق التكريم والثناء والأوسمة.
ثم راح التمساح يقدّم نفسه للعالم بأنه حيوان حضاري، يأكل العشب، ويحترم حقوق شعبه، ويعد بإجراء مراجعاتٍ عامة، وإصلاحات، واستعداد للحوار وإجراء انتخابات "نزيهة"، ومحاربة الفساد والفاسدين الذين حجبوا عنه الحقائق، وعاثوا خراباً ودماراً في المحمية. غير أن ثمة أسئلة كانت تدور في ذهن الرعية والعالم أجمع، وهي تنظر إلى دموع هذا التمساح الحاكم: هل في وسعه فعلاً أن يتحوّل من حيوان لاحم إلى عاشب؟ وماذا لو صدّقت الرعية وعوده وتخلصت من رعبها وخوفها، وقرّرت أن تدلي بأصواتها الحقيقية في صناديق الاقتراع، وجاءت النتائج في غير صالحه، هو المفتون بالسلطة، والمتشبث بالعرش بأنيابه؟ كما خطر في أذهانها سؤالٌ عن الطغمة التي أزاحها من طريقه: هل تستحقّ وسم "الضحية" على غرارها هي.
أسئلة كثيرة دارت في ذهن الشعب السوري، وهي ترى تمساحها يحاول أن يقدّم نفسه لهم وللعالم بحلّة جديدة، بعد أن تخلّص من عديد المقرّبين، واحدًا تلو الآخر. وتخطر في ذهنه أسماء شتّى، لا تبدأ بغازي كنعان ورستم غزالة، اللذين كانا من جنرالات النظام المقرّبين، ونفذا أجندات دموية في سورية ولبنان، ولا تنتهي بخلية الأزمة التي كانت تضمّ نسائب وأخداناً على غرار آصف شوكت وداود راجحة وحسن تركماني، والتي جرى تفجيرها عن بكرة أبيها في بواكير ثورة الربيع السورية، لأسباب لا تزال غامضة، وإن كان الراشح منها أنها نُفّذت بتواطؤ إيرانيّ، لأنها كانت تعتزم الانقلاب على التمساح الحاكم. وثمّة أيضاً جنرالات أقلّ شأناً، لكنهم خدموا التمساح في ذروة أزمته مع شعبه الذي خرج إلى الشوارع منادياً بإسقاطه، ومنهم عصام زهر الدين، الشهير بتعليق جثث الخصوم بالكلّابات وتمزيق لحومهم بالسكاكين، وصاحب التحذير المعروف للسوريين الهاربين إلى المنافي بألّا يفكّروا في العودة إلى سورية. ولربما كان هذا التحذير الذي تناقلته وسائل الإعلام بشدّة سببًا في اغتياله من النظام؛ لأنه أظهر الوجه السافر للتمساح الحاكم ومجازره، التي كان يحاول مواراتها استعداداً للمرحلة الجديدة.
كل أولئك التماسيح الصغيرة من الصفّ الثاني في منظومة الحكم كانوا عراقيل، وكان ينبغي إزاحتهم ليخلو الطريق أمام التمساح "العاشب"، الذي راح يسعى لإظهار رقّته وعذوبته أمام شعبه والعالم، واستعداده لطيّ الصفحة الحمراء القديمة والبدء من جديد، لكن شرط أن يظلّ محتفظاً بكرسيّ السلطة، وإن لم يُبدِ ذلك صراحةً، لكنه يعرف جيداً أنه طهّر البلاد من المناوئين والمعارضين، ولم يعد يحكُم غير النصف "المتجانس" من شعبه كما سمّاه ذات تصريح عنصري سابق؛ أما النصف المغاير والمختلف فأصبح طريداً في المهاجر والمقابر.
ولئن صدّقت دموعه تماسيح عربية لم تزل "لاحمة"، فذلك مفهوم، ربما للاستفادة من تجربته في التمويه والتحايل، بعد أن أفادت من تجربة التوحّش وتذويب المعارضين بالأسيد، فإن من غير المفهوم أن "تتمسّح" به قوى محسوبةٌ على النضال الفلسطيني، على غرار جركة حماس، إلا إذا كان المقصود أيضاً الإفادة من "تجاربه".