"التقارب الحذِر" بين السعودية وحماس

05 مايو 2023

وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل وخالد مشعل في الرياض (3/1/2010/فرانس برس)

+ الخط -

تمرُّ العلاقات بين السعودية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بمرحلة أخرى من "جسّ النبض" و"التقارب الحذر"، في سياق تحوّط الرياض من تداعيات تحوّلات السياسات الدولية والإقليمية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وانعكاساتها الاستراتيجية؛ إذ تحاول السعودية جذب حركة حماس، وقضية فلسطين عمومًا، بعيدًا عن توجّهات المحور الإيراني وسياساته. وعلى الرغم من هذا "التقارب الحذر"، يصعُب توقّع حدوث تغيرٍ كبيرٍ في سياسة الرياض تجاه "حماس"، كونها مرتبطة بمحدّدات هيكلية تتجاوز الطرفين، على نحو يجعل هذه العلاقة خاضعة لتأثير السياقات الدولية والإقليمية والعربية.

تأثير العامل الأميركي على العلاقات

وبغية تحليل مسار علاقات السعودية بحركة حماس، في العقدين الماضيين، يمكن إبراز خمس ملاحظات؛ أولاها أن العامل الأميركي (أولوية التحالف بين واشنطن والرياض على ما عداه من علاقات) مثّل، ولا يزال، أهم القيود/ المحدّدات على مستوى "الانفتاح السعودي" على الحركة، ولا سيما بعد فشل اتفاق مكّة للمصالحة الفلسطينية (8/2/2007)، الذي لم يشكّل "اختراقًا سياسيًّا" في علاقات حركتيْ فتح وحماس، بقدر ما حقّق "تهدئة إعلامية مؤقتة"، كانت مطلوبة سعوديًّا، قبيل انعقاد القمّة العربية التاسعة عشرة في الرياض في أواخر مارس/ آذار 2007، لتحقيق هدفين؛ استثمار هامش المناورة الدبلوماسية المتاح آنذاك، واستعداد السعودية للاضطلاع بدور أكبر، بعد غياب أدوار الفاعلين العرب في المشرق العربي (بسبب تداعيات احتلال العراق، وتآكل الدور المصري في حقبة حسني مبارك، وركون سورية بشّار الأسد إلى تحالفها مع إيران وحزب الله في لبنان).

خشية سعودية من احتمال انحياز حماس إلى محور إيران وسياساتها الإقليمية

وعلى الرغم من وجود طاقم سعودي (برئاسة بندر بن سلطان)، لتسويق اتفاق مكّة وإجراء الاتصالات مع القيادات العربية والدولية آنذاك، لم تستطع الرياض كبح جماح التأثير الإسرائيلي على إدارة جورج بوش الابن، التي كانت تبني مجمل سياساتها على تعميق الشرخ في إقليم الشرق الأوسط، بين معسكري "الاعتدال" و"الممانعة"، ما أكّد مجدّدًا أن علاقة التحالف الاستراتيجي بين أميركا وإسرائيل هي "الأوثق" في الإقليم، وأن "التماهي المصلحي" بينهما يجعل من الصعب على أي دولة عربية، مهما كانت صديقة للغرب، أن تتفوّق على تأثير إسرائيل على صانع القرار الأميركي/ الغربي.

خشية السعودية من التوظيف الإيراني لحماس

تتعلق الملاحظة الثانية بخشية السعودية من احتمال انحياز حركة حماس إلى محور إيران وسياساتها الإقليمية، في ظل اشتداد التنافس السياسي/ الجيوبوليتيكي بين طهران والرياض، على الرغم من توقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين (10/3/2023)؛ إذ تحرص السعودية على إرسال إشاراتٍ من آن إلى آخر، لتحذير القيادة السياسية لحماس من الانجرار خلف مواقف كتائب عز الدين القسّام؛ أي "الاصطفاف الكامل" مع إيران؛ فبعد أيامٍ من مشاركة رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في حفل تنصيب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أصدرت المحكمة الجزائية السعودية (8/8/2021) أحكامها على شخصياتٍ فلسطينية وأردنية، بتهم "الانتماء إلى حماس" و"دعم الإرهاب"، وهو الملفّ الذي بقي مفتوحًا أكثر من عام، قبل أن تقرّر الرياض الإفراج عن محمد الخضري ومعتقلين آخرين، بعد استنفاد قيمة هذه الورقة في الضغط على "حماس"، ولا سيما مع اتجاه الرياض نحو "الانفتاح الإقليمي التكتيكي" وعقد عدة جولات من الحوار مع إيران، بوساطات عراقية وعُمانية.

تتعلق الملاحظة الثالثة بطبيعة السياسة السعودية تجاه فلسطين، وأثر العامل الإسرائيلي على هذه السياسة؛ ولئن كان الاهتمام السعودي بقضية فلسطين مرتبطًا بركائز تخصّ شرعية النظام السعودي (الدينية – القَبلية)، فقد أدركت الرياض، خصوصًا في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز (1964- 1975)، أهمية قضية القدس، ولا سيما بعد هزيمة 1967، وحريق المسجد الأقصى عام 1969، ما دفع السعودية إلى تنشيط سياساتها في الدائرتين العربية والإسلامية ودعم إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، فضلًا عن تبنّي السعودية "خطابات" ذات سقف مرتفع في إطار تنافسها مع قيادة جمال عبد الناصر في مصر، التي كانت ترفع شعارات عروبية/ قومية.

الدعم السعودي لعملية التسوية و"تعريب" خيار كامب ديفيد

وبعد وفاة الملك فيصل، برز انعطاف الرياض نحو فكرة التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي لاحقا، وتجلّى الدور السعودي في "تعريب" خيار التسوية مع دولة الاحتلال بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، عبر إطلاق "مبادرة الأمير فهد" (ولي العهد السعودي آنذاك) عام 1981 إبّان قمة فاس الأولى؛ التي أثارت خلافاتٍ عربية واسعة، ثم جرى اعتمادها في القمة العربية التالية التي انعقدت في فاس أيضًا عام 1982، بعد اتّضاح تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، وعجز العرب عن "وقف" آلة الحرب الإسرائيلية، بعد خروج مصر الرسمية من معادلات الصراع العربي الإسرائيلي، عبر "التسوية المنفردة". ثم جاءت بعد عقدين مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز (ولي العهد السعودي آنذاك) التي اعتمدتها القمة العربية في بيروت (27-28/3/2002)، قبيل الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية، فأصبحت بذلك "المبادرة العربية للسلام".

 تبقى السعودية دائماً أقرب إلى الطرف الرسمي الفلسطيني، الذي تمثّله منظمة التحرير، ثم السلطة الفلسطينية في رام الله

واستطرادًا في تحليل السياسة السعودية تجاه فلسطين، كان واضحًا اعتراض الرياض على أي توجّهات راديكالية/ ثورية فلسطينية تحاول تغيير المعادلات الإقليمية، ولا سيما إذا كان ذلك عبر تحالفاتٍ مع الاتحاد السوفييتي سابقًا (كما كانت تفعل فصائل اليسار الفلسطيني)، أو إيران حاليًّا (كما تفعل حركتا حماس والجهاد الإسلامي حاليًّا). ولذلك تبقى السعودية دائمًا أقرب إلى الطرف الرسمي الفلسطيني، الذي تمثّله منظمة التحرير الفلسطينية، ثم السلطة الفلسطينية في رام الله (أنصار التسوية في الصفّ الفلسطيني)، ما يفسّر تأدية الرئيس الفلسطيني محمود عباس زيارة رسمية إلى السعودية في أواخر إبريل/ نيسان الماضي، واجتماعه مع الملك سلمان، وولي عهده محمد بن سلمان، بالتزامن مع أداء وفد من قيادات حركة حماس (إسماعيل هنية وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق وخليل الحية وآخرين)، مناسك العمرة، في أجواء من "التكتيم الإعلامي" على وجود/ غياب أبعاد سياسية لهذه الزيارة الدينية.

وعلى الرغم من ابتعاد الرياض، في عهد الملك سلمان، عن "الدبلوماسية الحذِرة والمناورة"، إلى سياسة "تدخّلية"، وسعيها إلى أن تصبح قوة عربية وإقليمية، عبر تعاون أوضح مع إسرائيل، فإن إشارات المرونة حول "التطبيع الدبلوماسي الكامل" مع إسرائيل لم تُترجم إلى موقف عدائي صريح تجاه "حماس"، على الرغم من "تحذيرات" في هذا الصدد للقيادات الفلسطينية إجمالًا، بما يتجاوز الحركة، في ثلاث مناسبات على الأقل؛ أولاها وصف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حماس بـ"التطرّف" في فبراير/ شباط 2018. وثانيتها تصريحات ولي العهد محمد بن سلمان، في لقائه رؤساء المنظمات اليهودية في نيويورك (27/3/2018)، التي طالب فيها "الفلسطينيين بالعودة إلى المفاوضات وقبول ما يعرض عليهم، أو الصمت والتوقّف عن التذمر". وثالثتها حديث سفير السعودية الأسبق لدى الولايات المتحدة بندر بن سلطان لقناة العربية (أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، الذي اتهم فيه القيادات الفلسطينية بـ"الفشل وتضييع الفرصة تلو الأخرى".

سياسة الرياض تجاه الإخوان المسلمين

تتعلق الملاحظة الرابعة بسياسة السعودية تجاه الحركات الإسلامية، خصوصًا الإخوان المسلمين في مصر، ومدى تأثّرها بالسياسات المصرية/ الإماراتية/ الأردنية؛ إذ يبدو واضحًا بعد تفشّي سياسات الثورات المضادّة في المنطقة، مدى التوافق على دمغ الإخوان بـ"الإرهاب" والتضييق على مجمل أنصار التغيير السلمي والديمقراطية في العالم العربي، والحرص على تهميشهم في المشهد السياسي، ما يعني أن أي تقاربٍ بين السعودية وحركة حماس يبقى محدودًا/ مرتبطًا، بأحد أمرين؛ إما اقتراب الأخيرة من فكرة التسوية (ولو خطابيًّا أو لفظيًّا)، كما حدث (2005 - 2007)، أو حاجة السعودية إلى حشد التأييد والدعم العربي/ السنّي لتوجّهاتها الإقليمية لعزل إيران، مثلما حدث إبّان تولي الملك سلمان بن عبد العزيز، مطلع عام 2015، والشهور الأولى في تشكيل "التحالف العربي" في حرب اليمن، التي تضمّنت إشاراتٍ قوية للتقارب مع كل من تركيا "العدالة والتنمية"، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، وحركة حماس، على الرغم من بقاء تصنيف بيان وزارة الداخلية السعودية (7/3/2014) جماعة الإخوان المسلمين (الأم) منظمةً إرهابية.

تتعلق الملاحظة الخامسة بأن حركة حماس هي "الطرف الأضعف" في العلاقة مع الرياض والقاهرة؛ إذ تحتاج دعمهما السياسي والمادي، كما يعوز "حماس" امتلاك أوراق ضغط عليهما، ما يفسّر انضباط خطابها نحوهما عمومًا، وعدم انتقادهما إلا نادرًا جدًا، وعلى لسان شخصياتٍ هامشيةٍ في الحركة، على الرغم من قدرتها على "إزعاج/ تهديد" إسرائيل أحيانًا، سواء عبر تحريك قضية "تبادل الأسرى"، أم تحذير سلطات الاحتلال من مغبّة تغيير "الواقع القائم" في المسجد الأقصى والقدس المحتلة، أم التلويح بورقة "وحدة الساحات"، كما حدث، أخيرا، مع إطلاق صواريخ من جنوب لبنان على إسرائيل.

تحتاج الرياض لتنويع علاقاتها وتحالفاتها الدولية وإعادة النظر في سياساتها الإقليمية، خصوصاً التخلي عن دعم نهج "التسوية السلمية" العقيم

ومن الأهمية بمكان، في هذا السياق، أن إدراك حجم البعد الإعلامي، في أي "مبادرات انفتاحية" سعودية، وعدم المبالغة في دلالات هذه الخطوات السعودية (مثل المقابلة التي أجرتها قناة العربية مع رئيس حركة حماس في إقليم خارج فلسطين خالد مشعل، في يوليو/ تموز 2021)؛ إذ كانت مجرد "رسالة" إلى الإمارات بأن السعودية، بوزنها العربي ومكانتها الإسلامية الرمزية، قادرة على إزعاج أبوظبي بأوراقٍ كثيرة، ومنها التلويح بتقارب الرياض مع حماس.

المقاومة الفلسطينية بين التقصير العربي والتوظيف الإيراني

يبقى القول إن استنكاف السعودية ومصر (والدول العربية الأخرى) عن دعم المقاومة الفلسطينية، والرهان الخاسر على تفعيل التطبيع وعملية التسوية مع إسرائيل، كلما آلت إلى التعثّر، وإعادة إحياء مبادرة السلام العربية عدّة مرات، يفاقم الاختراق الأميركي/ الإسرائيلي/ الإيراني للإطار العربي، ويوسّع دور طهران التي توظّف، بانتهازيةٍ واضحة، دعمها حركتيْ حماس والجهاد الإسلامي، ضمن سياساتها الإقليمية في الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية عمومًا، للتأثير على مواقفها من الملف النووي الإيراني. وهذا يؤكّد أمرين؛ أحدهما أن التقصير العربي في دعم النضال الفلسطيني يرتدّ بأسوأ الآثار على الدول العربية، ناهيك عن تداعياته على القضية الفلسطينية. والآخر أن غياب استراتيجية عربية متكاملة لإدارة الصراع مع إسرائيل، والتخلي عن فلسطين بوصفها "قضية محورية" للعرب، والانشغال بقضايا مصطنعة (مثل مكافحة الإرهاب والتصدّي للخطر الإيراني)، من شأنه تعميق "فقدان البوصلة العربية"، بالتوازي مع تمكين العوامل الخارجية، ولا سيما الصراع الأميركي/ الإسرائيلي مع إيران، وسياسات الثورات المضادّة، من الهيمنة على سياسات العالم العربي وتفاعلاته وتحالفاته الخارجية، فضلًا عن "أقلمة"/ "تدويل القضايا الاستراتيجية العربية وتجريدها من أي بُعدٍ عربيٍّ أو قدرة على التأثير، الأمر الذي بلغ حد المهزلة/ المأساة، في عرض إسرائيل استضافة مباحثات/ وساطة بين الأطراف العسكرية السودانية المتصارعة، منذ 15/4/2023.

ولئن كان صحيحًا أن السعودية تحاول جذب حركة حماس بعيدًا عن توجّهات المحور الإيراني وسياساته، فإن الرياض تحتاج لتنويع علاقاتها وتحالفاتها الدولية وإعادة النظر في سياساتها الإقليمية، خصوصًا التخلي عن دعم نهج "التسوية السلمية" العقيم، والتفكير في سحب المبادرة العربية للسلام بدلًا من إعادة طرحها (كونها ولدت ميتة أصلًا، وجاءت خالية من أي أدوات ضغط أو "أنياب"، ناهيك عن عدم قابليتها للتنفيذ إسرائيليًّا في ظل غياب أي قبول مجتمعي/ سياسي إسرائيلي لإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه، مع الصعود المطرد لتيارات اليمين الإسرائيلي المتطرّف)، ما يؤكّد مجدّدًا أن قضية فلسطين مرتبطة جذريًا بهوية المنطقة العربية وموازين القوى الدولية والإقليمية، وأن حلّها مرهونٌ بأن يتغلّب العامل الشعبي الفلسطيني/ العربي في إقليم الشرق الأوسط على العامل الدولي/ الأميركي فيها، مع تقليص آثار التدخّلات الخارجية في المنطقة، التي ستدخل حينها مرحلة جديدة ومختلفة عن واقعها الحالي، سواء في فلسطين أم في العالم العربي إجمالًا.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل