التعبير عن الهوية والإقصاء الرمزي
أدلى وزير خارجية الجزائر أحمد عطّاف بحوار مباشر (برنامج: "ذو الشأن مع خديجة"، منصة: أثير، الجزيرة، 27/12/ 2023) جاء فيه على موضوعاتٍ مختلفة، وبعضها من الإثارة التي يمكن أن تلهب من حولها، بقوةٍ أكبر من الحدّة والتوتر، ما لم يكن من قبل، بحكم الصراعات والتناقض في مختلف السياسات المتّبعة، بالقدر الذي هو عليه اليوم، أو، للتعبير عن المفارقة، كان ماضيا في فترة "الحرب الباردة" بحكم تميّزها بالصراعات القطبية المتنابذة التي كانت نتائجها المباشرة، المنذرة بأعنف الحروب، تسبق عادة كل أسلوب للتفكير في أبعادها المتوقعة.
والطريف في حوار وزير خارجية الجزائر أنه لم يأت على ذكر اتحاد المغرب العربي بالاسم إلا عرضاً، فَعبَّر عنه، أمام الإحراج المرتبط بجموده وعطالة مؤسّساته، بالحلم المرتجى رغم علمه بالاستحالة التي أجهضت الحلم، منذ أن اجتمعت الأحزاب المغاربية في طنجة في نهاية إبريل/ نيسان 1958، وبالخصوص أيضاً منذ إعلانه في مراكش في حفل ضخم بهيج في 17 فبراير/ شباط من سنة 1989.
وبناءً عليه، واغتنام المناسبة واضح أو كان منتظراً، أخرجت الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي بيانا غريبا، في بعض فقراته إثارة مقصودة: أولاً، لتسفيه الحلم الذي جهر به وزير خارجية الجزائر، رغم التأكيد على الأهمية والطموح المشروع الذي يُخالج الشعوب المغاربية... إلخ. وثانياً، وهو الأهم، ما قد يشبه التشهير، أو هو على الصعيد المغاربي التشهير بعينه. أعني بذلك أنه بيان "شخصي" تقريبا موجّه ضد الخارجية الجزائرية أو ضد الدولة نفسها: توضيح هذا أن السيد الأمين العام (لاتحاد المغرب العربي) علّق على الحوار الذي أجراه وزير خارجية الجزائر مع قناة الجزيرة، قائلا من دون سؤال قد يحرجه: (ونأمل أن نرى الأطر الشاغرة الثلاثة في الأمانة العامة ترشّح لها الجزائر كفاءات في مستوى المرحلة، وهي مدير البنية الأساسية ورئيس قسم التنمية البشرية وخبير البنية الأساسية، بالتزامن مع تسدید المستحقّات المتخلدة بالذمة...".
يجب أن يصبح الوعي بالوجود الهوياتي وعيا حقيقيا بالتحدّيات التي تحول دون التطور الإيجابي في أفق تحقيق الديمقراطية وصون مختلف الحرّيات
هناك تعييرٌ لا يُفهم تماماً إلا بفهم الوضعية التي هو عليها (اتحاد المغرب العربي) منذ سنوات، أي على سرير الموت، بعد أن فقد مختلف المبرّرات التي جعلت منه، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أمَلَ خمس دولٍ متنابذة متصارعة تسعى إلى الخروج من تخلّفها "الجيوسياسي" بحلم "كمن يأكل التين في المنام"، أي في غير موعد، وقد تعترضه مشكلاتٌ كثيرة حسب ابن سيرين. والوضعية المقصودة هي الجمود الإداري الذي لا يمكن أن تتحمّل الدولة الجزائرية وحدها مسؤولية مباشرة فيه. وهذا الجمود هو التعبير السياسي المُركّز عن طبيعة الصراع القائم في الفترات المتأخرة فقط بين الجزائر والمغرب، وبين تونس والجزائر، وبين المغرب وموريتانيا ولو ضمنيا، وعن طبيعة الصراع الدموي الذي هدّد ليبيا ويهدّدها في وحدتها وأوضاعها الاجتماعية ومعاش سكانها... إلخ. أي في المساحة الجغرافية والإنسانية نفسها التي بسطها "الاتحاد" لوحدة دولها.
ومن الصحيح أن الأمين العام أشاد بموقف الجزائر الداعي إلى إعادة بناء "المغربي العربي"، والإيحاء بوجوب التصالح مع المغرب، إلا أنّ ذكره موضوعا في غاية الحساسية، وتعريجه عليه من دون مبرّر واضح، يمكن أن يفهم على أنه: أولا، انتصار لموقف الدول المغاربية الأخرى... التي قد يكون من المفهوم، ضمنيا، أنها لم تتسبّب في جمود "الاتحاد" بأيّ قَدْر، وأنها تلتزم ماليا بما يلزمها به. ولا دليل على هذا ولا ذاك بطبيعة الحال، ولو كان موجودا، لما قصّر الأمين العام في إعلانه أو الدفاع عنه. وللبراءة من الإشارة هنا معناها في المجال الإعلامي التواصلي، ولمن شاء أن يؤول ذلك لفائدة سياسته الخاصة أن يفعل بتزكيةٍ من جهة مسؤولة توجد في أعلى هرم "الاتحاد". ثانيا، وأن يُفهم أيضا كتشهير مباشر بدولةٍ ذات سيادة، ثم إن قادتها كانوا مشاركين في التوقيع على "الحلم" الذي حلموه مع آخرين في مراكش قبل أكثر من ثلاثين سنة كما أشرت. والتشهير هنا تأويلٌ له معنى التشنيع بالدولة نفسها، وبالخطاب الأيديولوجي المعلن (النوايا) القائم على دعم الشعوب ومساندة الحركات، والعمل في سبيل التنمية والتقدّم وتقرير المصير.. وما شئت من الأهداف والمطامح التي كانت سياسة "يعقوبية" في اختيارات النظام القائم. ثالثا، وأن يفهم، ومن الأجدى أن يُقرأ قراءةً ظنّيةَ الدلالة، فيكون محطّ اختلاف في التفسير وفي معناه على الحكم السياسي المستخرج منها. هل يمكن الافتراض، من حيث الموقف، أنه ينتصر للمغرب بسبب العلاقة الصراعية الممتدّة في الزمن بينه وبين الجزائر؟ أفهم أن قضية الصحراء توجد في العمق من هذا التخريج، بل ويمكن الظنّ أن جمود الاتحاد لم يقع في التاريخ إلا بسبب تلك القضية الحاسمة في نظر المغاربة والجزائريين على حد سواء. أقصد حين تدعم الجزائر لأهدافٍ معينة حركة البوليساريو الانفصالية، وحين يحتج المغرب، اعتمادا على التاريخ والامتداد الجغرافي، بأن الصحراء أرضه المغربية.. وهكذا.
فقد اتحاد المغرب العربي المبرّرات التي جعلت منه، قبل أكثر من ثلاثة عقود، أمَلَ خمس دولٍ متنابذة متصارعة تسعى إلى الخروج من تخلّفها "الجيوسياسي"
سبق للأمين العام أن انتصر للمغرب، وإن لم يكن، في ذلك الإبّان، قد وقف ضد الجزائر، غير أن "استغلال" استجواب نطق به وزير خارجية هذا البلد، أو جعله مناسبة أو مبرّرا لإعلان مواقف معينة، في السياق وخارجه، لا يمكن إلا أن يثير معه أيضا ما لم يتوقّعه أي طرفٍ مباشر مقصود صدر عنه قصدا أو جرى تأويله على غير المقصود. أعني بهذا أن موضوع "الهوية" يعود هنا إلى الظهور في أجلى صوره الممكنة، على أساس المعاني المبثوثة في أجوبة وزير الخارجية وفي بيان الأمانة العامة. ومفاد هذا أن الذين تلقّوا ذلك من المغاربة، وأوّلوه على نحو ما يريدون له من تأويل، هم فئة من "الأمازيغ" المتعطشين لـ"ترصيص" الهوية على أساس الاختلاف لا التكامل. وهم الذين قاموا ضد التعبير المباشر (المغرب العربي) الذي ورد في الكلام وَحُبِّرَ في البيان، فالإثارة التي جاءت من خلال ذكر اسم "المغرب العربي" على الأرجح.. هذا إذا لم تكن وراء ذلك أهداف أخرى، وكذا من التعبير الرومانسي الماضوي الذي تشبث به الوزير الجزائري في حديثه عن "حلم المغرب العربي"، مع أنَّ الصحافية المضيفة كانت تعانده في ذلك بنوعٍ من الاستهزاء المكتوم، قَلَبَ التسمية إلى موقف هوياتي متشدّد يرفض، من وراء ذلك، كل ما هو عربي كآصرة قومية... فكانت المناسبة في الطرح الهوياتي القول بالرفض في وجه مؤسّسة (عربية) ذات بعد قومي مغاربي، لم تكن تسميتها عبثية في عقول المؤسّسين الحالمين، وربما كانت الظرفية السياسية إلى جانب طبيعة المرحلة التي تؤثّر عادة في الصياغة وتبرّر التسمية، من المحفّزات التي أوجبت التحديد. مع الاعتراف بأن التسمية، في بعدها العربي، تلغي كليةً أحد العناصر التاريخية الأساسية في تجربة الهوية المغاربية المتحوّلة. مع الاعتراف أيضا بما تم استدراكه، ولو بعد نضالاتٍ طويلة، وفي بعض جوانبها حادّة أو مُوَجَّهة كذلك، من بعض الدول المغاربية، حين اعترفت رسميا (الجزائر) أو دستوريا (المغرب) بالمكوّن الأمازيغي الذي يوجد في أساس التكوين العام للهوية (العرازيغية، العرب والأمازيغ)، إذا جاز التأليف، في حقيقة الوجود الوطني تاريخيا واجتماعيا ولغويا. فإعادة تسمية هذا المكون الوجودي، سواء على صعيد "الاتحاد" أو على مستويات أخرى، لن يغيّر، في الواقع، من حقيقة وجوده في بنية المجتمعات المغاربية. أما إذا اعتبرنا أن التصوّرات الأمازيغية عن الرقعة الجغرافية صيغة نضالية لمعاداة العنصر العربي، بمختلف امتداداته، بما في ذلك "الفتح" العربي الإسلامي لشمال إفريقيا، فقد يكون ذلك من باب الدفاع عن هويةٍ عنصريةٍ لا يمكن التسليم دوما بوجاهة مطالبها التاريخية، أي أنها تتحوّل إلى موقف إلغاء، فيه كثير من العناد، لباقي العناصر الأخرى التي صارت عناصر جوهرية بحكم التحوّل في هويات أخرى متراكبة.
لا يتعلّق الأمر باحتقار أو قمع أقلية أو أغلبية معينة، أو إقناع هذه أو تلك بصواب طرح تاريخي معيّن، بل بالدعوة إلى فهم مختلف لحقائق الوجود الهويتي، بعيدا عن التفاعل الظرفي مع الصراعات المختلفة التي تخترق وجودنا الاجتماعي، ثم وأن يصبح الوعي بالوجود الهوياتي وعيا حقيقيا بالتحدّيات التي تحول دون التطور الإيجابي في أفق تحقيق الديمقراطية وصوْن مختلف الحرّيات والإلحاح على التوزيع العادل للخيرات الوطنية في مختلف البلدان المغاربية.