التعايش الصعب في فرنسا
تدخل فرنسا تجربةً من التعايش الصعب بين الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الحكومة الجديد ميشيل بارنييه، فالرجلان يختلفان في السنّ والتوجّه السياسي ونظام الحكم وإدارة الدولة. الأوّل أصغر رئيس دولة في تاريخ فرنسا، والثاني أكبر رئيس وزراء في تاريخ الجمهورية الخامسة، التي أسّسها الجنرال ديغول عام 1958. ماكرون ذو ماضٍ يساري، بدأ حياته السياسية عضواً في الحزب الاشتراكي، ومن ثمّ تطوّر ليصبح ليبرالياً بعد أن عمل في قطاع المصارف والأعمال مستشاراً لدى بنك روتشيلد. أمّا بارنييه فهو شخصية سياسية مخضرمة من الطراز الكلاسيكي، خرّيج المدرسة العُليا للتجارة، ينحدر من اليمين التقليدي ببعده الاجتماعي، ولديه تجربة في الحكم في فرنسا وأوروبا تمتدّ 40 عاماً، صنعت "بروفايله" رجلَ دولةٍ مهنياً يجمع بين السياسة والاقتصاد، جادّاً ونزيهاً وصبوراً ومحاوراً، يتقن العمل داخل الفريق.
ليس خلاف السنّ تفصيلاً هنا، لكنّه لا يتعلّق بنظرية صراع الأجيال، بل بنظرة كلّ جيل إلى الآخر، وخاصّة جيل الشباب، الذي يعدّ نفسه متجاوزاً (ومتقدّماً على) ساسة الماضي. وقد درجت خلال آخر عقد نظريةُ انتقال السلطة إلى الأجيال الشابة، التي كان وصول ماكرون إلى الرئاسة عام 2017 (وهو في سنّ 39) أحد أبرز تجلّياتها، وكان قراره تعيين غابريال أتال رئيساً للوزراء، في سنّ 35 عاماً، ترجمةً لهذه الفلسفة، التي ثبت أنّها قاصرة، عندما أقصت الحرسَ القديم وحسبته على الماضي، وبذلك تخلّت عن الخبرة في إدارة الدولة بمفهومها التقليدي، وخاصّة دورها في الخدمات الأساسية كالصحّة والتعليم والدفاع. ومن هنا، يُعِدُّ قرار ماكرون تعيين بارنييه، بعد بحث طوال شهرَين عن رئيس حكومة يتجاوز المرحلة، خلطاً للأوراق بالرجوع إلى رجالات الماضي البعيد، واختيار السياسي الوحيد الباقي من النسخة الديغولية لليمين، التي تتمتّع بمواصفاتٍ سياسيةٍ لم تعد دارجةً لدى ساسة اليوم، وخصوصاً فيما يتعلّق بخيارات السياسة الخارجية ذات الطابع الاستقلالي عن الولايات، وتعزيز البناء الأوروبي، والموقف المتوازن من الشرق الأوسط، والصراع العربي الإسرائيلي.
لا تبدو مهمّة بارنييه سهلةً: رئيس وزراءٍ في مواجهة رئيسٍ ليبرالي النزعة، وبرلمانٍ منقسم بين ثلاث كتل سياسية كبيرة متنازعة، لا يُشكّل أيٌّ منها أغلبيةً مطلقةً. وهو في هذه الحالة يحتاج ثقةَ البرلمان ودعمه، كي يحكم، ليس رئيسَ وزراءٍ تقليدياً يتلقّى أوامر من الرئيس، خاصّة أنّه يتمتّع بقوّة الشخصية واستقلاليتها، وسبق أن اختلف مع الرئيس الأسبق جاك شيراك، الذي أقاله من وزارة الخارجية عام 2005، وهو الوحيد الذي لم يتقبّل قرارَ رئيس الدولة في حينه، وندَّد به، واعتبره نوعاً من الإعدام. وبالتالي، تعوّل عليه أوساطٌ واسعةٌ بألّا يعمل وفق رؤية ماكرون، الذي سيجد نفسه مضطرّاً لأن يترك له هامشاً واسعاً من الاستقلالية في الشأن الداخلي. وفي هذه الحالة، سيكون بارنييه أمام امتحان تطبيق برنامجه، الذي قدّمه عام 2022 من أجل الترشّح لرئاسة الدولة، لكنّ حزب الجمهوريون (الذي ينتمي إليه) خذله، واختار بديلاً منه فاليري بيكريس، التي فشلت فشلاً ذريعاً في المنافسة، ولم تتجاوز حتّى عتبة 5%، وشكّل ذلك صدمةً للحزب الذي تفرّق شمله، والتحق تيّارٌ منه بماكرون، وآخر تحالف مع اليمين المُتطرّف، وتمكّن القسم الباقي من أن يستعيد توازنه في آخر انتخابات تشريعية، ويأتي في المرتبة الرابعة من حيث عدد المقاعد في البرلمان.
ولكن هذا لا يعني أنّ هذا التيّار على هوى بارنييه الذي يُغرّد خارج السرب. وتشكّل عودته فرصةً مهمّةً له كي يعمل لتعبيد طريقه نحو الانتخابات الرئاسية المُقبلة (2027) شخصيةً تُشكّل صمّام أمان وسط حالة الانقسام السياسي، وصعود الشعبوية واليمين المُتطرّف.